للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثاني: هو "أنهم لما اتسعت مداركهم وعرفوا ما لم يكن يعرفه سلفهم الذين كانوا من عرب البادية وفيهم سذاجة وعدم عمق في التفكير؛ كانوا أكثر تسامحا مع مخالفيهم من سلفهم".ولكنه لم يجزم بواحد من هذين السببين بل قال: "ولا مانع من أن يكون قد اجتمع لديهم السببان معا" (١).

والمهم هنا هو أن نعرف موقف الإباضية من هذا التحليل السابق الذكر هل يعترفون بأنهم أكثر تساهلا من خلفهم؟ وهل فعلا أضعفتهم الحروب الدموية مع مخالفيهم؛ فأحبوا التقرب إليهم اتقاء شرهم؟ وهل يعترفون بأن سلفهم كانوا على جانب من البداوة التي كانت تظهر في سذاجتهم وعدم عمق في تفكيرهم الذي كان سطحيا يأخذ الأمور ببراءة البدوي وطباعه أم أنهم كانوا ضد ذلك وضد تلك الصفات؟ سنجد أن المدافع الأكبر عن الإباضية – علي يحيى معمر – يتصدى للرد على هذه التهم كلها ويصفها بأنها افتراضات غير صحيحة، وأن القول بسلف متشدد وخلف متساهل كان من جزاء ربط الإباضية بالخوارج، وهو ربط يصفه المؤلف بأنه انسياق مع كتاب المقالات من غير رجوع إلى كتب الإباضية ومصادرها.

ثم يذكر أنه لا مانع من تغير الاجتهادات في غير القطعيات، بل هو من محاسن الشريعة، ولم يخل منها مذهب من المذاهب الإسلامية، إلى أن يقول عن الغرابي بخصوصه: "ومع هذا فأنا أؤكد للأستاذ الغرابي أن المسائل التي أوردها لم يتغير فيها رأي خلف الإباضية عن سلفهم، فيما عدا مسألة واحدة هي مسألة أطفال المشركين، فقد كانت عند السلف خلافية، ورجح الخلف أنهم من أهل الجنة خدما للمسلمين طبقا للأحاديث الواردة في الموضوع". وقد استشهد بعدة أمثلة تبين اجتهاد الخلف وتيسيرهم في بعض المسائل. أما القول بأن الحروب أضعفتهم فأحبوا مسالمة الناس، فقد نفى معمر صحة هذا، ولم يثبت من حروبهم غير الحركة التي قام بها طالب الحق في الجزيرة العربية طيلة عهد الدولة الأموية، ثم جاء ببيان لدول الإباضية التي قامت في الشرق والغرب أثبت من خلاله أن الإباضية كانوا لا يعتدون على أحد من مجاوريهم (٢)، ومن ثم فلم يكن تسامحهم عن غيرهم ناشئا عن ضعف. ويجدر بنا أن نقرر هنا أن الإباضية لم يكونوا جميعا على هذا القدر الذي تقدم من التسامح في الحكم على مخالفيهم في معاملتهم لهم، بل كان منهم المغالون في التشدد تجاه مخالفيهم، ومن الشواهد على ذلك ما رواه الجيطالي الإباضي عن الإمام عبدالوهاب: "أنه قال: سبعون وجها تحل بها الدماء، فأخبرت منها لأبي مرداس بوجهين فقال: من أين هذا، من أين هذا؟ وفي كتاب سير المشائخ أن الإمام كان يقول: عندي أربعة وعشرون وجها تحل بها دماء أهل القبلة، ولم تكن منهم عند أبي مرداس رحمه الله إلا أربعة أوجه، وقد شدد علي فيهم" (٣).وقد اعتبر علي معمر معرفة الإمام عبدالوهاب بهذه الأوجه الكثيرة التي تحل بها دماء المسلمين أهل القبلة من باب السعة في العلم – كما يرى (٤).


(١) ((تاريخ الفرق الإسلامية)) (ص٢٨١، ٢٨٢).
(٢) انظر لهذا ((الفصل)): كتاب ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص٧٠ إلى ص٨٢).
(٣) ((قواعد الإسلام)) (ص١٠٥).
(٤) ((الإباضية في موكب التاريخ)) (٢/ ٣٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>