للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولعل هذا الاستثناء يؤيد ما قاله الأشعري من ضرورة استتابة المخالفين وإلا قتلوا، وإن جعله معمر من التهم التي قيلت في الإباضية. ويوضح السالمي أيضا موقف الإباضية من مخالفيهم بإيضاح بين، وذلك في قوله: "لا نرى الفتك بقومنا - يعني مخالفيهم - ولا قتلهم غيلة في السر؛ لأن الله لم يأمر به في كتابه ولم يفعله أحد من المسلمين". ويقول أيضا: "نرى أن مناكحة قومنا وموارثتهم لا تحرم علينا ما داموا يستقبلون قبلتنا". ويقول عن الاستعراض الذي تدين به الأزارقة: "ولا نرى استعراض الناس بالسيف ما داموا يستقبلون القبلة" (١).ويقول الورجلاني عن مخالفيهم وما يكون عليه الإباضية في ساحة الحرب تجاههم: "وإن حاربناهم فإنا لا نتبع مدبرا ولا نجهز على جريح، وأموالهم مردودة عليهم إلا ما كان لبيت المال، فإنا نحوزه على وجهه ولا نتورع عن جميع ما في أيديهم من المظاليم عندنا إذا كان جائزا في مذهبهم وما كان في أيديهم من بيت مال المسلمين فإنا نأخذه ولا نرده إليهم، ونصرفه في وجوهه، وإن كان مظلمة رددناها إلى أهلها". ويرى الثعاريتي - وهو أحد علماء الإباضية - أن ما قيل عن الإباضية من تحليلهم لغنيمة أموال مخالفيهم من سلاحهم وكراعهم عند الحرب غير صحيح، "إذ تآليف أصحابنا - كما يقول - كلها ناطقة بتحريم أموال أهل القبلة في الحرب وغيرها للغني والفقير" (٢).

وأما ما حكاه الأشعري وغيره عنهم من استباحتهم قتل المشبهة وسبيهم وغنيمة أموالهم واتباع موليهم باعتبار أنهم مرتدون، فإن الإباضية لا تقر هذا التعبير على عمومه، بل يرون أنه صيغ بهذا الالتواء بقصد التشنيع على الإباضية كما يرى معمر، وذلك لأنه يشمل بعض من يعاملهم الإباضية معاملة المسلمين وإن اعتبروهم من المشبهة بسبب خطئهم في التعبير عن ذات الله تعالى، ذلك أن المشبهة عندهم ثلاثة أقسام: مجسمة وهم الذين يصفون الله بأنه جسم كالأجسام ثم يحددونه، وشبه مجسمة وهم كالمجسمة يحددونه، ولكن يحتجزون بقولهم "ونحن لا نعرف ذلك" كما عبر علي معمر، فأهل هذين القسمين هم عند الإباضية مشركون مرتدون، يقول معمر عن رأي الإباضية فيهم: "فالمجسمة يعتبرهم الإباضية مشركين لا فرق بينهم وبين عبدة الأوثان بسبب تصورهم وتصويرهم لإلههم بصورة المخلوق المحدود".أما القسم الثالث فهم الذين "يثبتون المعاني الحرفية لبعض الكلمات التي وردت في القرآن تثبت له الحركة أو الجوارح كاليد والعين والساق والمجيء والنزول والاستواء والمسرة والضحك، فيمسكون عن تأويلها بالمعنى المناسب ويقولون: كما أراد الله". وأهل هذا القسم يعتبرهم الإباضية مشبهة بسبب خطئهم في التأويل ولكنهم يعاملونهم معاملة المسلمين، ولا يطلقون عليهم اسم المشبهة إلا في مواطن الجدل العنيف (٣).

وهكذا يتضح لنا ما قلناه سابقا من تسامح الإباضية في حكمهم على مخالفيهم ومعاملتهم لهم، حتى كانو بذلك أقرب فرق الخوارج إلى الجماعة الإسلامية.

ولقد اعتبر هذا الموقف المتسامح عند الإباضية بمثابة تغير في موقف قدماء الخوارج المتشدد من مخالفيهم.

ولقد علل الغرابي رحمه الله تساهل الإباضية فأرجعه إلى سببين:

الأول: هو أنهم ضعفوا لكثرة حروبهم، فهم يريدون أن يتقربوا من مخالفيهم شيئا فشيئا حتى لا تقوم بينهم الحرب.


(١) نقلا عن ((الإباضية بين الفرق)) (ص٣١١).
(٢) نقلا عن ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص٢٨٥).
(٣) انظر: ((الإباضية بين الفرق)) (ص٣٣٥ - ٣٣٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>