إن كل من له عقل يعلم أن المصحف لن يرد ولن يتحدث أو يحكم، وإنما الحكم بكتاب الله يكون بالرجوع إلى العلماء الحافظين له العاملين بمعانيه ومقاصده، وهذا ما فعله علي رضي الله عنه من تحكيم صحابيين جليلين، واشترط عليهما تحكيم الكتاب والسنة، فيرجع إلى مقتضى النصوص لا إلى الأهواء والمصالح الشخصية.
وهذه مقدمة ما احتج به رضي الله عنه وما رد به على اعتراضات الخوارج، وبنود هذه المناظرة هي التي ناظرهم بها عبدالله بن عباس رضي الله عنهما لما بعثه إلى الخوارج، فيحتمل أن ابن عباس سمع عليا رضي الله عنه لما قال ما قال عند جمع قراء الناس، ثم سار إلى الخوارج في ديارهم، وناظرهم فيما نقموا واعترضوا، وهذا نص المناظرة التي جرت بين عبدالله بن عباس وبين الخوارج.
يقول عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: (لما خرجت الحرورية اعتزلوا في دار، وكانوا ستة آلاف، وأجمعوا على أن يخرجوا على علي، فكان لا يزال يجيء إنسان، فيقول: يا أمير المؤمنين! إن القوم خارجون عليك. فيقول دعوهم؛ فإني لا أقاتلهم حتى يقاتلوني، وسوف يفعلون.
فلما كان ذات يوم؛ أتيته قبل صلاة الظهر، فقلت لعلي: يا أمير المؤمنين! أبرد بالصلاة؛ لعلي أكلم هؤلاء القوم. قال: فإني أخافهم عليك. قلت: كلا، وكنت رجلا حسن الخلق، لا أؤذي أحدا. فأذن لي، فلبست حلة من أحسن ما يكون من اليمن، وترجلت، ودخلت عليهم في دار النهار وهم يأكلون، فدخلت على قوم لم أر قط أشد منهم اجتهادا، جباهم قرحة من السجود، وأياديهم كأنها ثفن الإبل، وعليهم قمص مرحضة، مشمرين، مسهمة وجوههم.
فسلمت عليهم، فقالوا: مرحبا بك يا ابن عباس! وما هذه الحلة عليك؟! قلت: ما تعيبون مني، فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن ما يكون في ثياب اليمنية، ثم قرأت هذه الآية: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأعراف: ٣٢].
فقالوا: فما جاء بك؟ قلت لهم: أتيتكم من عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار، ومن عند ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وصهره - وعليهم نزل القرآن؛ فهم أعلم بتأويله منكم، وليس فيكم منهم أحدا -؛ لأبلغكم ما يقولون، وأبلغهم ما تقولون.