للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقالت طائفة منهم: لا تخاصموا قريشا؛ فإن الله عز وجل يقول بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف: ٥٨]. فانتحي لي نفر منهم، فقال اثنان أو ثلاثة: لنكلمنه. قلت: هاتوا؛ ما نقمتكم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه؟ قالوا: ثلاث. قلت: ما هن؟ قال: أما إحداهن؛ فإنه حكم الرجال في أمر الله، وقال الله: إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ [الأنعام: ٥٧]. ما شأن الرجال والحكم؟ قلت: هذه واحدة. قالوا: وأما الثانية؛ فإنه قاتل ولم يسب ولم يغنم؛ إن كانوا كفارا؛ لقد حل سبيهم، ولئن كانوا مؤمنين؛ ما حل سبيهم ولا قتالهم. قلت: هذه ثنتان، فما الثالثة؟ وذكر كلمة معناها. قالوا: محى نفسه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين؛ فهو أمير الكافرين. قلت: هل عندكم شيء غير هذا؟ قالوا: حسبنا هذا. قلت لهم: أرأيتكم إن قرأت عليكم من كتاب الله جل ثناؤه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما يرد قولكم؛ أترجعون؟ قالوا: نعم. قلت: أما قولكم: "حكم الرجال في أمر الله؛ فإني أقرأ عليكم في كتاب الله أن قد صير الله حكمه إلى الرجال في ثمن ربع درهم، فأمر الله تبارك وتعالى أن يحكموا فيه. أرأيت قول الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ [المائدة: ٩٥]. وكان من حكم الله أنه صيره إلى الرجال يحكمون فيه، ولو شاء يحكم فيه، فجاز من حكم الرجال. أنشدكم بالله! أحكم الرجال في إصلاح ذات البين وحقن دمائهم أفضل أو في أرنب؟! قالوا: بلى؛ بل هذا أفضل. وفي المرأة وزوجها: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا [النساء: ٣٥]. فنشدتكم بالله! حكم الرجال في صلاح ذات بينهم وحقن دمائهم أفضل من حكمهم في بضع امرأة؟! خرجت من هذه؟ قالوا: نعم. قلت: وأما قولكم: "قاتل ولم يسب ولم يغنم"؛ أفتسبون أمكم عائشة تستحلون منها ما تستحلون من غيرها وهي أمكم؟ فإن قلتم: إنا نستحل منها ما نستحل من غيرها؛ فقد كفرتم، وإن قلتم: ليست بأمنا؛ فقد كفرتم: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب: ٦]. فأنتم بين ضلالتين، فأتوا منها بمخرج. أفخرجت من هذه؟ قالوا: نعم. وأما محي نفسه من أمير المؤمنين؛ فأنا آتيتكم بما ترضون: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية صالح المشركين، فقال لعلي: ((اكتب يا علي! هذا ما صالح عليه محمد رسول الله. قالوا: لو نعلم أنك رسول الله، ما قاتلناك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: امح يا علي! اللهم إنك تعلم أني رسول الله، امح يا علي! واكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله)) (١)، والله لرسول الله صلى الله عليه وسلم خير من علي، وقد محى نفسه، ولم يكن محوه نفسه ذلك محاه من النبوة! أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم. فرجع منهم ألفان، وخرج سائرهم، فقتلوا على ضلالتهم، قتلهم المهاجرين والأنصار) (٢).


(١) انظر ((السيرة النبوية)) لابن هشام (٣/ ٢٠٣) ط/ مكتبة الكليات الأزهرية.
(٢) رواه عبد الله بن أحمد في ((زوائد المسند)) (١/ ٣٤٢) (٣١٨٧)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (٥/ ١٦٧)، وعبدالرازق في ((المصنف)) (١٠/ ١٥٧)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (١/ ٣١٨)، وابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (٢/ ٣٦٢). قال الوادعي في ((الصحيح المسند)) (٧١١): حسن.

<<  <  ج: ص:  >  >>