للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقيل أول من أحدثه حماد بن أبي سليمان، شيخ أبي حنيفة، وتلميذ إبراهيم النخعي، ثم تبعه أهل الكوفة وغيرهم، ذكر ذلك شيخ الإسلام بن تيمية. قال البغدادي: ثم حدث في زمان المتأخرين من الصحابة خلاف القدرية في القدر والاستطاعة من معبد الجهني، وغيلان الدمشقي، والجعد بن درهم، وتبرأ منهم المتأخرون من الصحابة كعبدالله بن عمر، وجابر بن عبدالله، وأبي هريرة، وابن عباس، وأنس بن مالك، وعبدالله بن أبي أوفى، وعقبة بن عامر الجهني، وأقرانهم، وأوصوا أخلافهم بأن لا يسلموا على القدرية ولا يصلوا على جنائزهم، ولا يعودوا مرضاهم، ثم اختلفت الخوارج بعد ذلك فيما بينها (١).ثم تأتي البدايات الأولى لوعيدية المعتزلة، والقول بالمنزلة بين المنزلتين، يقول البغدادي: ثم حدث في أيام الحسن البصري خلاف واصل بن عطاء الغزالي، في القدر وفي المنزلة بين المنزلتين وانضم إليه عمر بن عبيد بن باب في بدعته فطردهما الحسن من مجلسه فاعتزلا إلى سارية من سواري مسجد البصرة فقيل لهما ولأتباعهما "معتزلة" لاعتزالهم قول الأمة في دعواهم أن الفاسق من أمة الإسلام لا مؤمن ولا كافر (٢).

وقال الشهرستاني في معرض الحديث عن البدع والمحدثات التي كانت في أواخر عصر الصحابة أولها بدعة القدر كما مر معنا قال: "ونسج على منوالهم واصل بن عطاء الغزال وكان تلميذ الحسن البصري، وتلمذ له عمر بن عبيد، وزاد عليه في مسائل القدر ... والوعيدية من الخوارج، والمرجئة من الجبرية، والقدرية، ابتدءوا بدعتهم في زمان الحسن واعتزل واصل عنهم، وعن أستاذه بالقول منه بالمنزلة بين المنزلتين، فسمي هو وأصحابه معتزلة، وقد تلمذ له زيد بن علي وأخذ الأصول فلذلك صارت الزيدية كلهم معتزلة".

وهكذا بدأ الكلام في مسائل الاعتقاد وإن كان مفرق لكنه أشبه ما يكون بالسيل يبدأ قطرات ثم ما يلبث أن يتجمع ثم يطبق بعد ذلك الأرض.

وهكذا انتقل علم الكلام إلى طور جديد أكثر تطوراً وأكثر فاعلية ووضوح، على يد الجهم بن صفوان الذي جمع شتات الأقوال السابقة، وأخرجها من مخرج واحد، وصبها في بوتقة واحدة. قال الذهبي – رحمه الله -: "عن الجهم أبو محرز الراسبي مولاهم السمرقندي الكاتب رأس الضلالة ورأس الجهمية كان صاحب ذكاء وجدل ... وكان ينكر الصفات وينزه الباري عنها بزعمه ويقول بخلق القرآن ويقول بأن الله في كل مكان" (٣).يقول الدكتور سفر الحوالي: "أما الجهم بن صفوان فهو رأس الضلالات وأس البليات جعله الله فتنة الناس، وسبباً للإضلال، كما جعل السامري في بني إسرائيل، وحسبنا أن نعلم أن هذا الرجل الذي كان من شواذ المبتدعة في مطلع القرن الثاني قد ترك من الأثر في الفرق الإسلامية الاثنين والسبعين، ما لا يعادله أثر أحد غيره، هذا مع أنه ليس بإمام يحتج بقوله ولا عالم يعتد بخلافة ولا شهد له أحد بخير" (٤).روى اللالكائي، بسنده عن أحدهم: "قرأت في دواوين هشام بن عبدالملك، إلى عامله بخرسان نصر بن سيار، أما بعد فقد نجم قبلك رجل من الدهرية من الزنادقة يقال له جهم بن صفوان فإن أنت ظفرت به فاقتله وإلا فادسس إليه من الرجال غيلة ليقتلوه" (٥).ونقل الحافظ بن حجر عن ابن أبي حاتم، أن سلم بن أحواز، عامل نصر بن سيار على مرو، لما قبض على جهم قال: "يا جهم إني لست أقتلك لأنك قاتلتني، أنت عندي أحقر من ذلك، ولكن سمعتك تتكلم بكلام باطل أعطيت لله عهداً أن لا أملك إلا قتلك فقتله" (٦).


(١) ((الفرق بين الفرق)) (٣٩ - ٤٠).
(٢) ((الفرق بين الفرق)) (ص: ٤١).
(٣) ((سير أعلام النبلاء)) (٦/ ٢٦ - ٢٧).
(٤) ((ظاهرة الإرجاء)) (٢/ ٣٩٠ - ٣٩١).
(٥) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (٣/ ٣٨١).
(٦) ((فتح الباري)) (١٣/ ٣٤٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>