والأمر الآخر: خلطه فيما يورده بين الأحاديث الصحيحة، والضعيفة والموضوعة، حيث جعلها نسقاً واحداً في الدلالة وضرورة التأويل، وإذا أشار إلى ضعف بعض الروايات لا يكتفي بذلك في ردها وبيان عدم الحاجة إلى بحث ما دلت عليه من الصفة لله تعالى، وإنما يشير إلى ضعفها - إن أشار - بكلمات ثم يجلب بخيله ورجله في تأويلها. ومن الأمثلة على ذلك - وهي كثيرة - تأويله لرواية ((الحجر الأسود يمين الله في أرضه، يصافح بها من شاء من خلقه)) (١)، فإنه قال - دون أن يتعرض لإسناده، وهل هو مرفوع أو موقوف -: "وقد تأول أهل العلم ذلك على وجهين من التأويل: أحدهما: أن المراد بذلك الحجر أنه من نعم الله على عباده، بأن جعله سبباً يثابون على التقرب إلى الله تعالى بمصافحته، فيؤجرون على ذلك، وقد بينا أن العرب تعبر عن النعم باليمين واليد .. وزعم بعضهم: أن هذا تمثيل وأصله أن الملك إذا صافح رجلاً، قبل الرجل يده، فكان الحجر لله تعالى بمنزلة اليمين للملك ليستلم ويلثم، وقد روى في الخبر أن الله عز وجل لما أوجده أخذ الميثاق من بني آدم وأشهدهم على أنفسهم الست بربكم؟ قالوا: بلى، جعل ذلك في الحجر الأسود، فلذلك يقال عنده: إيماناً بك ووفاءً بعهدك.
ويحتمل وجهاً آخر: وهو أن يكون قوله ((الحجر يمين الله في أرضه))، إنما إضافة إليه على طريق التعظيم للحجر، وهو فعل من أفعال الله عز وجل سماه يميناً، ونَسَبهُ إلى نفسه وأمر الناس باستلامه ومصافحته، ليظهر طاعتهم بالائتمار وتقربهم إلى الله عز وجل، فيحصل لهم بذلك البركة والسعادة". ولو أن ابن فورك بين درجته وضعفه - أو ضعف المرفوع منه - ثم بين وضوح دلالته وأن نص الحديث يدل على أن الحجر ليس يمين الله حقيقة والتي هي صفته القائمة به لأنه قال:"في الأرض"، لما احتاج إلى هذه التأويلات.
وأحياناً يستعين ببعض الروايات الشاذة أو الضعيفة، فمثلاً حين أوّلَ أحاديث النزول بعدة تأويلات قال:"وقد روى لنا بعض أهل النقل هذا الخبر عن النبي بما يؤيد هذا الباب، وهو بضم الياء من "ينزل" وذكر أنه قد ضبطه عمن سمعه عنه من الثقات الضابطين"، والروايات المتواترة جاءت بما هو مشهور، فكيف تمسك بهذه الرواية الشاذة، والمجهول رواتها؟ وفي تأويله للإتيان في قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة: ٢١٠]، ذكر رواية عن مجاهد أنه قال: يأتيهم بوعده ووعيده. مع أن المأثور عن مجاهد عكس هذا.
٢ـ وابن فورك يؤول الاستواء والعلو، خلافاً للباقلاني الذي يثبتهما، وقد سبق نقل كلامه في ذلك، ولأهمية قول ابن فورك في هذه المسألة في تتبع تطور المذهب الأشعري نعرض لأقواله فيها، يقول عن الاستواء في معرض رده على ابن خزيمة في كتابه (التوحيد): "ثم ذكر صاحب التصنيف بابا ترجمه باستوائه على العرش، وأوهم معنى التمكين والاستقرار، وذلك منه خطأ، لأن استواءه على العرش سبحانه ليس على معنى التمكين والاستقرار، بل هو في معنى العلو بالقهر والتدبير، وارتفاع الدرجة بالصفة على الوجه الذي يقتضي مباينة الخلق"، وفي موضع آخر حين رد على أحمد بن إسحاق الصبغي - صاحب ابن خزيمة - أحال على تأويله للاستواء فيما سبق - والذي نقلناه قبل قليل -.
(١) رواه الخطيب البغدادي في ((تاريخ بغداد)) (٦/ ٣٢٦) من حديث جابر, وقال البغدادي: منكر, وكذا قال الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (٢٢٣).