أما العلو: فله في تأويله أقوال كثيرة: أـ يقول في حديث الجارية حين قال لها رسول الله ((أين الله؟ قالت في السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة)) (١).، يقول ابن فورك:"إن ظاهر اللغة تدل من لفظة أين أنها موضوعة للسؤال عن المكان، ويستخبر بها عن مكان المسؤول عنه بأين .. غير أنهم قد استعملوها عن مكان المسؤول عنه في غير هذا المعنى توسعاً أيضاً تشبيهاً بما وضع له، وذلك أنهم يقولون - عند استعلام منزلة المستعلم عند من يستعمله -: أين منزلة فلان منك، وابن فلان من الأمير، واستعملوه في استعلام الفرق بين الرتبتين بأن يقولوا: أين فلان من فلان، وليس يريدون المكان والمحل من طريق التجاوز في البقاع، بل يريدون الاستفهام عن الرتبة والمنزلة، وكذلك يقولون: لفلان عند فلان مكان ومنزلة، ومكان فلان في قلب فلان حسن، ويريدون بذلك المرتبة والدرجة في التقريب والتبعيد، والإكرام والإهانة، فإذا كان ذلك مشهوراً في اللغة احتمل أن يقال: إن معنى قوله ((أين الله))؟ استعلام لمنزلته وقدره عندها وفي قلبها، وأشارت إلى السماء، ودلت بإشارتها على أنه في السماء عندها على قول القائل - إذا أراد أن يخبر عن رفعة وعلو منزلة -: فلان في السماء، أي هو رفيع الشأن، عظيم المقدار، كذلك قولها في السماء على طريقة الإشارة إليها، تنبيهاً عن محله في قلبها ومعرفتها به وإنما أشارت إلى السماء لأنها كانت خرساء، فدلت بإشارتها على مثل دلالة العبارة، على نحو هذا المعنى، وإذا كان كذلك لم يجز أن يحمل على غيره مما يقتضي الحد والتشبيه والتمكين في المكان والتكييف"، وبعد أن يقرر ابن فورك مذهبه هذا وتأويله - العجيب - لهذا الحديث، يذكر قولاً آخر لبعض الأشاعرة فيقول:"ومن أصحابنا من قال: إن القائل إذا قال: إن الله في السماء، ويريد بذلك أنه فوقها من طريق الصفة، لا من طريق الجهة، على نحو قوله سبحانه َمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك: ١٧]، لم ينكر ذلك"، وقد يكون قصد ببعض أصحابه: الباقلاني، الذي صرح بنفي الجهة - وقد سبقت الإشارة إلى ذلك.
ب ـ قال في معرض رده على المعتزلة الذين يذهبون إلى أن الله في كل مكان، وبيانه أن المسلمين يطلقون أن الله فوق خلقه، وأن "في" في قوله تعالى: أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ بمعنى "على" غير أنه يعقب قائلاً: "واعلم أنا إذا قلنا: إن الله عز وجل فوق ما خلق، لم يرجع به إلى فوقية المكان، والارتفاع على الأمكنة بالمسافة، والإشراف عليها بالممارسة منها، بل قولنا إنه فوقها يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه يراد به أنه قاهر لها، مسؤول عليها، إثباتاً لإحاطة قدرته بها، وشمول قهره لها، وكونها تحت تدبيره، جارية على حسب علمه ومشيئته.
والوجه الثاني: أن يراد أنه فوقها على معنى أنه مباين لها بالصفة والنعت، وأن ما يجوز على المحدثات من العيب والنقص والعجز والآفة والحاجة، لا يصح شيء من ذلك عليه، ولا يجوز وصفه به، وهذا أيضاً متعارف في اللغة أن يقال: فلان فوق فلان، ويراد بذلك رفعة المرتبة والمنزلة، والله عز وجل فوق خلقه على الوجهين جميعاً".
وإنما يمتنع الوجه الثالث: وهو أن يكون على معنى التحيز في جهة الاختصاص ببقعة دون بقعة، وإذا قلنا: إنه فوق الأشياء على هذا الوجه قلنا أيضاً في تأويل إطلاق القول بأنه فيها على مثل هذا المعنى".
(١) رواه مسلم (٥٣٧) , من حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه.