جـ ـ ويقول في رده على ابن خزيمة:"واعلم أنه ليس ينكر قول من قال: إن الله في السماء، لأجل أن لفظ الكتاب قد ورد به وهو قوله: أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك: ١٦]، ومعنى ذلك: أنه فوق السماء لا على معنى فوقية المتمكن في المكان، لأن ذلك صفة الجسم المحدود المحدث، ولكن بمعنى ما وصف به أنه فوق من طريق الرتبة والمنزلة والعظمة والقدرة، ثم ذكر هذا القائل (ابن خزيمة) في ذلك قوله عز وجل: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: ١٠]، وقوله: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:١٥٨] وهذا منه غلط، من قبل (أن) صعود الكلم الطيب إليه على معنى صعود من سفل إلى علو، لاستحالة ذلك في الكلام لكونه عرضاً لا يبقى، وكذلك العمل الصالح وإنما معنى صعود الكلام إليه قبوله، ووقوعه منه موضع الجزاء والثواب، وقوله:(يرفعه) لا على معنى رفع من مكان إلى مكان، ولكن رفع له على معنى أنه قد تقبل، وأن الكلام إذا اقترن به العمل الصالح قُبلاً دون أن ينفرد الكلام من العمل. وأما قوله تعالى في قصة عيسى بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، فمعناه: رفعه إلى الموضع الذي لا يعبد فيه إلا الله، ولا يذكر فيه غيره، لا على معنى أنه ارتفاع إليه كما يرتفع الجسم من سفل إلى جسم في علو، بأن تقرب منه بالمسافة والمساحة".
د ـ ويشير في مواضع أخرى إلى تأويله للعلو والفوقية. هذا في كتابه الذي وصل إلينا كاملاً، وقد ذكر شيخ الإسلام - نقلاً عن كتابه في أصول الدين - ما يدل على إثبات العلو والاستواء، وأنه قال فيه:"وإن سألت أين هو فجوابنا: أنه في السماء كما أخبر في التنزيل عن نفسه بذلك فقال - عز من قائل – أأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك: ١٦]، وإشارة المسلمين بأيديهم عند الدعاء في رفعها إليه، وإنك لو سألت صغيرهم وكبيرهم فقلت: أين الله؟ لقالوا: إنه في السماء ولم ينكروا لفظ السؤال بأين، لأن النبي سأل الجارية التي عرضت للعتق فقال: أين الله؟ فقالت: في السماء: مشيرة بها، فقال النبي:((اعتقها فإنها مؤمنة)) (١)، ولو كان ذلك قولاً منكراً لم يحكم بإيمانها ولأنكره عليها، ومعنى ذلك أنه فوق السماء، لأن في معنى فوق، قال الله تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ [التوبة: ٢] أي فوقها، وقال عن الاستواء"فإن قال: فعلى ما هو اليوم؟ قيل له: مستو على العرش كما قال سبحانه: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: ٥]".
قال ابن تيمية معلقاً: "فيشبه - والله أعلم - أن يكون اجتهاده مختلفاً في هذه المسائل كما اختلف اجتهاد غيره، فأبو المعالي كان يقول بالتأويل ثم حرمه، وحكى إجماع السلف على تحريمه ... ".
ومما سبق يمكن تلخيص دور ابن فورك في تطور المذهب الأشعري بما يلي:
١ـ العناية بالحديث والاهتمام به، مع البقاء على منهج وطريقة أهل الكلام وتأويلاتهم، وبذلك خف الحاجز الذي كان يفصل بين أهل السنة من أهل الحديث الذين يثبتون ما دلت عليه النصوص، وأهل الكلام الذين كانوا بعيدين عن الاهتمام بعلم الحديث رواية ودراية، وهذا المنهج الذي سلكه ابن فورك هو ما سنجده بشكل أقوى وأوضح عند البيهقي.
٢ـ الغلو في التأويل، وكأنه صار هو الأصل، والإثبات هو القليل.
٣ـ تأويل صفة الاستواء والعلو، وهذا تطور خطير وكبير في المذهب الأشعري، وإن كان - كغيره من الأشاعرة - قد أثر عنه المنع من تأويلها.
المصدر:موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – ٢/ ٥٥٥
عبد القاهر البغدادي - ت ٤٢٩هـ
(١) رواه مسلم (٥٣٧) , من حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه.