للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلة. وهو دين الله الذي أظهره، وجنده الذي أعدّه وأمدّه، حتى بلغ ما بلغ، وطلع حيث طلع، ونحن على موعود من الله، والله منجز وعده، وناصر جنده، ومكان القيم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمه: فإن انقطع النظام تفرق الخرز وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً. والعرب اليوم، وإن كانوا قليلاً، فهم كثيرون بالإسلام، عزيزون بالاجتماع! فكن قطباً واستدر الرحا بالعرب، وأصلهم دونك نار الحرب، فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك.

إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا: هذا أصل العرب، فإذا اقتطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك، وطمعهم فيك. فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين، فإن الله سبحانه هو أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما يكره. وأما ما ذكرت من عددهم، فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة وإنما كنا نقاتل بالنصر والمعونة" (نهج البلاغة) بتحقيق صبحي (ص٢٠٣، ٢٠٤) تحت عنوان "ومن كلام له (أي علي) عليه السلام وقد استشاره عمر في الشخوص لقتال الفرس بنفسه").

فهل بعد ذلك شك لشاك بأن علياً رضي الله عنه كان يعدّ الفاروق مصداقاً لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخبر عنه، وبشر به المسلمين بأن الإسلام يبلغ مداه في عصره وعهده، ولذلك يقول علي رضي الله عنه: ونحن على موعود من الله، والله منجز وعده، وناصر جنده إلخ. فإنه بذلك يشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم: ((ثم استحالت غرباً فأخذها عمر بن الخطاب، فلم أر عبقرياً ينزع نزع عمر حتى ضرب الناس بعطن)). (١)

صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأكثر من ذلك يلفت أنظار الناس بكلامه هذا إلى وعد الله عز وجل كما ورد في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا [النور:٥٥].

فالمقصود من انتباهه وتوجيهه بقوله: ونحن على موعود من الله: بأن الله وعد المؤمنين والعاملين الصالحات التمكن في الأرض والاستخلاف، فنحن المؤمنين وأنت أيها الفاروق أميرنا، والله ينجز وعده في عهدك وخلافتك، وينصر جنده الذين يقاتلون تحت رايتك وقيادتك الحكيمة وتوجيهاتك الرشيدة لأن دين الله لا بد له أن يظهر ويغلب - حتى يبلغ بجرانه، لأنك أنت القيم بأمره، ومدبر لقضاياه، وبك شأنه ومكانه، فإن أنت فقدت ضاع الأمر، وانتشر الجمع، وضعفت القوة، وانكسرت الشوكة، وافترق الناس حتى لن يرجى اجتماعهم واتحادهم بعد ذلك أبداً (فكان كما قال، فتحت أبواب الفتن بعد شهادته ولم تغلق بعده حتى اليوم، وقد ورد في ذلك المعنى حديثاً أيضاً) فإذا انقطع النظام تفرق الجزر وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً. وأيضاً أشار بذلك إلى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب)) (٢) ,

- رواه المجلسي في (بحار الأنوار) عن محمد الباقر –" (بحار الأنوار) ج٤ كتاب السماء والعالم) فإن دعاء الرسول لا بد له أن يقبل.


(١) رواه البخاري (٣٦٦٤) ومسلم (٢٣٩٢)
(٢) رواه ابن ماجه (١٠٥) وابن حبان (٦٨٨٢) والحاكم (٣/ ٨٩) (٤٤٨٤) وقال صحيح على شرط الشيخين، وقال الحافظ في ((الفتح)) (٧/ ٤٨) أخرجه الحاكم بإسناد صحيح، وأورده الألباني في ((الصحيحة)) (٣٢٢٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>