للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتقدمت الإجابة عن اعتراضاتهم كذلك. وهنا لابد من الإشارة إلى اعتراف بعض حذاق علماء الأشاعرة بهذا الإقرار الفطري وهو: الشهرستاني حيث قال في كتابه (نهاية الإقدام في علم الكلام): "وأنا أقول: ما شهد به الحدوث أو دل عليه دليل الإمكان بعد تقديم المقدمات دون ما شهدت به الفطرة الإنسانية من احتياج في ذاته إلى مدبر هو منتهى الحاجات فيرغب إليه ولا يرغب عنه، ويستغني به ولا يستغني عنه، ويتوجه إليه ولا يعرض عنه، ويفزع إليه في الشدائد والمهمات فإن احتياج نفسه أوضح له من احتياج الممكن الخارج إلى الواجب، والحادث إلى المحدث" (١).

فاعتراف الشهرستاني بدليل الفطرة وأن منزلته في الاستدلال فوق الاستدلال بدليل الحدوث والإمكان، وعلل ذلك بأن أصل دليل الفطرة مركوز في النفس لذلك كان أقوى من الدليل الذي يطلب من خارج – وهو واضح – وسيأتي ذكر اعترافات أخرى من غيره في الباب الرابع إن شاء الله.

وأما الأمر الثاني الذي ناقضوه بقولهم هذا فهو أن المعروف بالكتاب السنة والإجماع أن أول ما يجب على المكلفين هو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وقد مضى تحقيق هذه المسألة في الباب الأول – ولكن لا بأس من الإشارة هنا إلى بعض الأدلة:

فمن الكتاب قول الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل: ٣٦] وقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: ٢٥]، وهذا صريح في أن الرسل ما بعثوا إلا لعبادة الله وحده، وأفاد هذا الحصر الآية الثانية. وأما من السنة فقول الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعثه إلى أهل اليمن: ((فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)) (٢). وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله)) (٣).وقد وردت في حديث معاذ جملة وهي: ((فإذا عرفوا الله)) فتمسك بها من قال إن أول واجب هو المعرفة (٤)، والجواب كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "إن الأكثر رووه بلفظ: ((فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذلك)) (٥). ومنهم من رواه بلفظ: ((فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله، فإذا عرفوا ذلك)) (٦)، ومنهم من رواه بلفظ: ((فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله فإذا عرفوا الله)) (٧)، .... ووجه الجمع بينهما أن المراد بالعبادة: التوحيد، والمراد بالتوحيد: الإقرار بالشهادتين، والإشارة بقوله "ذلك" إلى التوحيد: وقوله ((فإذا عرفوا الله)) أي عرفوا توحيد الله، والمراد بالمعرفة: الإقرار والطواعية (٨)، فبذلك يجمع بين الألفاظ المختلفة في القصة الواحدة .. " (٩). اهـ.


(١) ((نهاية الإقدام في علم الكلام)) (ص: ١٢٥).
(٢) رواه مسلم (١٩).
(٣) رواه البخاري (٢٩٤٦) , ومسلم (٣٣) (٢١) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٤) ونسب هذا القول إلى إمام الحرمين كما في ((فتح الباري)) (١٢/ ٣٦١).
(٥) رواه مسلم (١٩).
(٦) رواه البخاري (٧٣٧٢).
(٧) رواه البخاري (١٤٥٨) , ومسلم (١٩).
(٨) أي التوحيد الذي فسره بالإقرار بالشهادتين لا النظر ولا معرفة الوجود فقط كما زعم الجويني، وهو واضح.
(٩) ((فتح الباري)) (١٣/ ٣٦٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>