للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما الجهة الأولى: فقد تقدم مرادهم بهذا النظر – وسيأتي إيضاح طريقه إن شاء الله، وقد صرحوا هم بأن طريقة النظر طريقة معتاصة على الفهم حيث لا يعلمها إلا الراسخون في العلم! وهنا لابد من وقفات: الأولى: إن هذه الطريقة لم تنقل عن السلف مع اشتمالها على طرق محرمة كما قال الإمام أبو المظفر السمعاني: "وإنما أنكرنا طريقة أهل الكلام فيما أسسوا فإنهم قالوا: أول ما يجب على الإنسان النظر المؤدي إلى معرفة الباري عز وجل. وهذا قول مخترع لم يسبقهم إليه أحد من السلف وأئمة الدين." اهـ (١)، فتراه أنكر عليهم طريقتهم لاشتمالها على ما لم ينقل عن السلف من أن أول واجب على المكلف النظر، وهي كذلك تستلزم لوازم باطلة كنفي صفات الباري الاختيارية – وقد التزموا ذلك – بدعوى أنها لو ثبتت للزم قيام الحوادث به، وهذا يؤدي إلى تعطيل إثبات وجوده، الذي تم بإثبات أن كل ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث! الثانية: وطريقتهم هذه في الأصل قد أخذوها من المعتزلة كما قال أبو جعفر السمناني وهو من رؤوس الأشاعرة: "إن هذه المسألة بقيت في مقالة الأشعري من مسائل المعتزلة وتفرع عليها أن الواجب على كل أحد معرفة الله بالأدلة الدالة عليه، وأنه لا يكفي التقليد في ذلك. (٢) " فإنهم قد أخذوها عنهم وحاولوا أن يخالفوهم في أصول أخرى كإثبات صفات المعاني فتناقضوا وحاولوا أن يخرجوا من هذا المضيق فأثبتوها كلها أو جلها – بطريقة لا تخلوا من مخالفة لأهل السنة كما سيأتي إن شاء الله. الثالثة: إن النظر الذي ذكر في القرآن ليس هو النظر الذي تواضع عليه هؤلاء المتكلمون، وإنما النظر فيه بذكر الآيات التي هي العلامات الدالة على ما هي آيات له، من غير حاجة إلى توسط حد كما هو في المقاييس العقلية، وقد تخلص بعضهم فقال إنه يصح الاستدلال بالدليل الإجمالي، "وهو المعجوز عن تقريره وحل شبهه" (٣)، ومرادهم أن يعجز الإنسان بذكره على الوجه المعتبر عند المنطقيين (٤).

وقد ترتب على إيجابهم النظر على جميع المكلفين اختلافهم في حكم التقليد في معرفة العقائد على ستة أقوال:-

أولها: الحكم بكفر المقلد مطلقاً.

وثانيها: الحكم بعصيانه مطلقاً.

وثالثهما: الحكم بعصيان من قلد وفيه أهلية للنظر.

ورابعها: صحة إيمان من قلد القرآن والسنة القطعية!! - فيما عدا الصفات النقلية.

وخامسها: صحة إيمان المقلد مطلقاً، لأن النظر شرط كمال. وسادسها: صحة إيمان المقلد مع تحريم النظر، وحملوه على المخلوط بالفلسفة. وأقوى هذه الأقوال عند المتأخرين القول الثالث (٥).

ويلاحظ أن كل تلك الأقوال مبنية على أساس منهار وهو أن المعرفة نظرية لا فطرية!. وزعمهم بأن من تابع القرآن والسنة في المعرفة يكون مقلداً ناشئ من ظنهم أنهما دليلان لفظيان خبريان لا يتضمنان براهين عقلية وهذا ظن باطل – والتحقيق هو أن النظر يجب على من لم يحصل العلم والإيمان إلا به، على أن يكون هذا النظر صحيحاً غير ملتزم لباطلً.

الجهة الثانية من المناقشة: في إيجابهم النظر على كل مكلف من ذكر وأنثى:


(١) الانتصار لأهل الحديث – ضمن ((صوت المنطق والكلام للسيوطي)) (ص: ١٧١)، ونقله عنه أبو القاسم التيمي في ((الحجة في بيان المحجة)) (٢/ ١١٧ - ١١٨).
(٢) نقله عن الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) (١٣/ ٣٦١).
(٣) ((شرح جوهرة التوحيد)) (ص: ٢١).
(٤) والتفريق بين الدليل الجملي والتفصيلي لم يرتضه بعض الأشاعرة – كالرازي – باعتبار أن الدليل إذا كان متركباً من عشر مقدمات –مثلاً- فإنه لا يقبل الزيادة لأنها كافية، ولا يقبل النقصان لأنه يؤدي إلى التقليد في بعض المقدمات! انظر ((المحصول في أصول الفقه للرازي)) (٦/ ٧٦ - ٧٧).
(٥) انظر ((شرح جوهرة التوحيد)) (ص: ٣٤ - ٣٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>