للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ب- أتباعهم لمن سبقهم من الجهمية والمعتزلة في تعريف التوحيد: وهذا من منهج شيخ الإسلام العام في ردوده على الأشاعرة، حيث إنه كثيرا ما يرجع أقوال هؤلاء إلى أصولها الفلسفية والاعتزالية، ولذلك فهو هنا حين رد على الرازي الذي نفى الصفات بناء على أن الله أحد، واحد، أرجع أقواله إلى أقوال المعتزلة فقال: "هذا الاستدلال هو معروف قديماً من استدلال الجهمية النافية، فإنهم يزعمون أن إثبات الصفات ينافي التوحيد ويزعمون أنهم هم الموحدون، فإن من أثبت الصفات فهو مشبه ليس بموحد، وأنه يثبت تعدد القدماء، ولا يجعل القديم واحدا، فالجهمية من المتفلسفة والمعتزلة وغيرهم يبنون على هذا، وقد يسمون أنفسهم الموحدين، ويجعلون نفي الصفات داخلا في مسمى التوحيد" (١)، ثم ذكر شيخ الإسلام أن أئمة السلف كالإمام أحمد وغيره ردوا على هؤلاء، وبينوا ما في أقوالهم من التلبيس والباطل، يقول الإمام أحمد – رحمه الله -: "فقالت الجهمية لنا لما وصفنا هذه الصفات: إن زعمتم أن الله ونوره، والله وقدرته، والله وعظمته، فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره ولم يزل وقدرته؟ قلنا: لا نقول: إن الله لم يزل وقدرته، ولا نقول ولم يزل ونوره، ولكن نقول: لم يزل بقدرته، ونوره، لا متى قدر، ولا كيف قدر. فقالوا: لا تكونون موحدين أبدا حتى تقولوا: قد كان الله ولا شيء، قلنا نحن نقول: قد كان الله ولا شيء ولكن إذا قلنا: إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلها واحدا بجميع صفاته، وضربنا لهم مثلا في ذلك قولنا: أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذع وكرب وليف وسعف وخوص وجمار، واسمها اسم شيء واحد، وسميت نخلة بجميع صفاتها؟ فكذلك الله – وله المثل الأعلى – بجميع صفاته إله واحد، لا نقول: إنه قد كان في وقت من الأوقات ولا قدرة حتى خلق قدرته، والذي ليس له قدرة هو عاجز، ولا نقول قد كان في وقت من الأوقات ولا يعلم، والذي لا يعلم هو جاهل، ولكن نقول: لم يزل الله عالما قادراً مالكا، لا متى ولا كيف. قال: وسمى الله رجلا كافرا اسمه الوليد بن المغيرة المخزومي فقال: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا [المدثر: ١١]، وقد كان الذي سماه وحيدا له عينان وأذنان ولسان وشفتان ويدان ورجلان وجوارح كثيرة، وقد سماه وحيدا بجميع صفاته وكذلك الله – وله المثل الأعلى – بجميع صفاته واحد" (٢).فهؤلاء الذين واجههم الإمام أحمد – رحمه الله – هم شيوخ لمن جاء بعدهم، من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة الذين يزعمون أن الواحد هو الذي لا صفة له ولا قدرة، وابن سينا الفيلسوف يعبر عن ذلك بقوله "إن واجب الوجود واحد من كل وجه، ليس فيه أجزاء حد ولا أجزاء كم، أو يقال: ليس فيه كثرة حد ولا كثرة كم، ويقال ليس فيه تركيب المحدود من الجن والفصل، ولا تركيب الأجسام، ومقصود هذه العبارات أنه ليس لله صفة ولا له قدرة" (٣)، والمعتزلة يسمون أنفسهم أهل العدل والتوحيد، وجعلوا التوحيد أحد أصولهم الخمسة، ويبنون ذلك على أن القديم ليس معه في القدم غيره، فلو كان له صفات، للزم تعدد القدماء مع الله تعالى. فجعلوا حقيقة التوحيد نفي الصفات (٤).

فلما جاءت الأشعرية تلقفوا هذا الأصل عن هؤلاء، وجعلوا من مقتضيات التوحيد نفي ما ينفونه من الصفات كالعلو والاستواء، والوجه واليدين وغيرها.


(١) انظر: ((نقض التأسيس)) – المطبوع – (١/ ٤٦٣).
(٢) ((نقض التأسيس)) – المطبوع – (١/ ٤٦٣ - ٤٦٤)، و ((كلام الإمام أحمد في الرد على الزنادقة والجهمية)) (ص: ٩١ - ٩٢) – ضمن عقائد السلف.
(٣) ((نقض التأسيس)) – المطبوع – (١/ ٤٦٥).
(٤) انظر: ((نقض التأسيس)) – المطبوع – (١/ ٤٦٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>