للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التحرر من قيد النص المقدس ابتغاء التوفيق بين ما يفهم من صريح اللفظ وبين ما يقتضيه العقل. الرغبة في تعميق صريح النص المقدس ابتغاء مزيد من العمق في الآراء التي يحتويها, ومن هذه الدواعي يتبين أن ما يلجئ إلى التأويل هو الاضطرار إلى الأخذ بنص يعد مقدساً أو مقيداً، ولولا هذا لما كان ثم أي داع إلى التأويل (١).وهذه الدواعي تصدق على كل من قال بالتأويل بالباطن، سواء لدى اليهود أو المسيحيين أو غيرهم، أما حجة الباطنية فإنهم قالوا: لكل ظاهر باطن ولكل تنزيل تأويل (٢)، فلظواهر القرآن والأخبار بواطن تجري في الظواهر مجرى اللب من القشر، وأنها بصورها توهم عند الجهال الأغبياء صوراً جلية، وهي عند العقلاء والأذكياء رموز وإشارات إلى حقائق معينة وأن من تقاعد عقله عن الغوص على الخفايا والأسرار والبواطن والأغوار، وقنع بظواهرها مسارعاً إلى الاغترار بما كان تحت الأواصر والأغلال، وأرادوا بالأغلال التكليفات الشرعية، فإن من ارتقى إلى علم الباطن انحط عنه التكليف واستراح من أعبائه وهم المرادون بقوله تعالى وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:١٥٧] وربما موهوا بالاستشهاد عليه بقولهم: إن الجهال المنكرين للباطن هم الذين أريدوا بقوله تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:١٣] (٣).ولقد عرف التأويل الرمزي أو الباطني لدى اليهود وانتقل إليهم من الفلسفة اليونانية. يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي: (انتقل التأويل الرمزي إلى اليهود على يد فيلون اليهودي (٤) في القرن الأول الميلادي الذي يعد من أكبر ممثلي النزعة إلى التأويل في العصر القديم وإن كان قد سبقه في اليهودية كثيرون أولوا الكتب المقدسة في العهد القديم تأويلاً رمزياً، وهو نفسه يشير إليها لكن فيلون ذرف عليهم بأن جعل من التأويل مذهباً قائماً برأسه ومنهجاً في الفهم) (٥).والذين قالوا بالتأويل قبل فيلون هم (يهود الإسكندرية، إذ كانوا يشرحون التوراة شرحاً رمزيا على غرار شرح الفيثاغوريين والأفلاطونيين والرواقيين لقصص الميثولوجيا وعبادات الأسرار) (٦)، وكان هذا هو الطريق الوحيد أمامهم لجعلها مقبولة لدى اليونان، ويوجد في نسخة التوراة السبعينية آثار من هذا الاتجاه الرمزي الذي انتشر بين يهود الإسكندرية (٧).


(١) ((مذاهب الإسلاميين)) (٢/ ١٠).
(٢) ((خطط المقريزي)) (٢/ ١٠٠)
(٣) ((فضائح الباطنية)) للإمام الغزالي: (ص١١، ١٢) تحقيق وتقديم د. عبد الرحمن بدوي، نشر الدار القومية للطباعة والنشر القاهرة ١٩٦٤.
(٤) فيلون الإسكندري ولد بالإسكندرية عام (٢٠ أو٣٠ ق. م) ومات بعد (٥٤ من القرن الأول للميلاد) في زمن الحواريين وقد كان كبير المنزلة بين أبناء جنسه اليهود وطائفته. يقول عنه د. يوسف كرم: "كان كبير القدر في قومه، فمما يذكر عنه أنه في أواخر أيامه ذهب في وفد إلى روما يشكو معاملة الحاكم الروماني على مصر لأهل ملتها، ويعد فيلون من أشهر المؤلفين الذين كتبوا التوراة وشرحوها باليونانية. راجع أميل بريهيه ((الآراء الدينية والفلسفية)) لفيلون الإسكندري (ص٦)، وما بعدها طبعة الحلبي (١٩٥٤م)، و ((تاريخ الفلسفة اليونانية)) (ص ٢٤٧)، دار بيروت لبنان.
(٥) ((مذاهب الإسلاميين)) (٢/ ١١، ١٢).
(٦) ((تاريخ الفلسفة اليونانية)) (ص٢٤٨) , د. يوسف كرم.
(٧) ((نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام)) (١/ ٧٤) , د .. النشار, "والسبعينية هي: أقدم الترجمات وأشهرها قام بها في القرن الثالث ق. م تلبية لدعوة بطليموس فيلاديف اثنان وسبعون عالما وهذا العدد هو أصل التسمية"، هامش ((تاريخ الفلسفة اليونانية)) (ص٢٤٧). راجع أيضا ترجمات العهد القديم في رسالة الدكتوراه ((تأثر اليهودية بالأديان القديمة)).

<<  <  ج: ص:  >  >>