للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والغرض الأساسي عند فيلون من استعمال التأويل الرمزي ومحاولة تطبيقه على نصوص التوراة هو تحويل أشخاص قصص التوراة إلى رموز يعبر بها عن جوانب الخير والشر في النفس الإنسانية ونزعاتها المختلفة، فقصة بدء الخليقة تمثل عند فيلون رموزاً إيحائية تفسر حالات النفس الإنسانية تفسيراً داخلياً، كما أنها تمثل عنده تقلبات النفس البشرية بين حالات الخير والشر والرذيلة والفضيلة: فآدم مثال للنفس العارية عن الفضيلة والرذيلة نراه يخرج من هذه الحالة بالإحساس المرموز له (حواء) التي تغريها اللذة والسرور المرموز لهما بالحية، وبهذا تلد النفس العجب المرموز له بـ (قابيل) مع كل ما يتبع ذلك من سوء، ومن ثم نجد الخير المرموز له بـ (هابيل) يخرج من النفس ويبتعد عنها، وأخيراً تفنى النفس الإنسانية في الحياة الأخلاقية ولكن تنمو بذور الخير التي في النفس بسبب الأمل والرجاء المرموز له بـ (أنيوس) والندم المرموز له بـ (إدريس)، ثم ينتهي الأمر بعد ذلك إلى العدالة المرموز له بـ (نوح)، ثم بالجزاء على ذلك وهو التطهير التام المرموز له بـ (الطوفان) (١). هذا نموذج لشرحه وتفسيره لأشخاص التوراة تفسيراً رمزيّاً، ومن خلال ذلك التأويل نستطيع أن ندرك كيف تحولت الشخصيات الدينية عنده إلى رموز لحالات نفسية معينة (٢).

ويحتمل أيضاً أن يكون التأويل الرمزي قد انتقل أولاً إلى السبئية عن طريق عبد الله بن سبأ فهو يهودي بل من علماء اليهود، ولا يستبعد اطلاعه على حركة التأويل عند اليهود قبل فيلون وبعده. ويؤيد هذا الاحتمال ما قام به ابن سبأ من عرض لأفكار يهودية كالرجعة والوصية واستناده فيهما على التأويل، وجاء من بعده تلميذه ابن حرب ونقل عقيدة الأسباط من الفكر اليهودي وقام بتأويل آيات من القرآن تؤيد دعواه.

وبيان بن سمعان صاحب (البيانية) كان ذا أصل يهودي وقال هو الآخر بالتأويل، وخاصة عند تفسيره لقول الله تعالى: هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ [آل عمران:١٣٨]

واتصل اليهود بالكيسانية اتصالاً وثيقاً، وكان التأويل من الأسس الهامة لدى الكيسانية، والمغيرة بن سعيد العجلي كان على صلة باليهود، وقد قال بالتأويل الذي يسب فيه الصحابة ويلعنهم، وهو ما يبغيه اليهود ويهدفون إليه، ثم ما فعله فيما بعد كما سنراه في الصفحات القادمة غلاة الإمامية يؤكد انتقال التأويل من اليهود إلى الإمامية هو أن مؤسس الباطنية وهي الشجرة التي أثمرت فكر الغلو الإمامي فيما بعد يهودي كما سبق، وقد ذكرناه في كتابنا (العقائد الباطنية وحكم الإسلام فيها).وقد قال عن هذا المؤسس الحمادي: إنه جعل لكل آية في كتاب الله تفسيرا، ً ولكل حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تأويلاً وزخرف الأقوال وضرب الأمثال وجعل لآي القرآن شكلاً يوازيه ومثلاً يضاهيه) (٣).وقد استخدم عبد الله بن ميمون التأويل فأدخله إلى الباطنية وتوسع فيه، وكان أبوه ميمون من قبل قد وضع كتابا في التأويل الباطني وأخذ يؤول الآيات القرآنية بما يتفق مع عقيدته في إمامة إسماعيل وابنه محمد وأسبغ عليهما قداسة كبرى (٤) وأضاف ابن ميمون إلى ما فعله أبوه فتطورت العقيدة تطوراً ملحوظاً وأخذ هو يجمع ويلفق بين مختلف الآراء مستعيناً بالتأويل (٥).

المصدر:الأصول العقدية للإمامية لصابر طعيمة


(١) راجع: ((الآراء الدينية والفلسفية)) لفيلون"، (ص ٧٣ - ٩٥)، ((الإمام ابن تيمية وموقفه من التأويل)) (ص٢، ٤، ٥).
(٢) ((الإمام ابن تيمية وموقفه من قضية التأويل))، (ص٢، ٥) , دكتور محمد السيد الجلنيد.
(٣) ((كشف أسرار الباطنية))، (ص١٩٧).
(٤) ((نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام)) (٢/ ٣٧٩) , د. النشار.
(٥) ((نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام)) (٢/ ٣٩٠) , د. النشار.

<<  <  ج: ص:  >  >>