للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويقول معلقا على استدلال الإمام أحمد – وقد سبق نقله قريبا -: "وأبلغ من ذلك ما ذكره الإمام أحمد وغيره من قوله: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا [المدثر: ١١]، فإن الوحيد مبالغة في الواحد، فإذا وصف البشر الواحد بأنه وحيد في صفة فإنه واحد أولى، ومع هذا فهو جسم من الأجسام" (١)، ثم يذكر بعد ذكر نصوص القرآن نصوص عديدة من السنة، منها أحاديث الصلاة في الثوب الواحد، مثل ما ورد في الصحيح أن النبي –صلى الله عليه وسلم- ((سئل: أيصلي الرجل في الثوب الواحد؟ فقال: أو لكلكم ثوبان)) (٢)، وحديث نهى أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء (٣)، وحديث أن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان يصلي في واحد (٤)، وحديث مروره- صلى الله عليه وسلم- بقبرين فقال: ((إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة)) (٥) وغيرها من الأحاديث كثير (٦)، وهي تدل على استخدام لفظ الواحد فيما هو جسم خلافا لما يزعمه هؤلاء. وإذا كان الأمر كذلك من أن الغالب في اللغة أن اسم الواحد يتناول ما ليس هو الواحد في اصطلاحهم "لم يجز أن يحتج بقوله تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [البقرة: ١٦٣] وقوله: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: ١]، ونحو ذلك مما أنزله الله بلغة العرب، وأخبرنا فيه أنه واحد، وأنه إله واحد – على أن المراد ما سموه هم في اصطلاحهم واحدا مما ليس معروفا في لغة العرب، بل إذا قال القائل: دلالة القرآن على نقيض مطلوبهم أظهر، كان قد قال الحق، فإن القرآن نزل بلغة العرب، وهم لا يعرفون الواحد في الأعيان إلا ما كان قديما بنفسه، متصفا بالصفات، مباينا لغيره، مشارا إليه. وما لم يكن مشارا إليه أصلا، ولا مباينا لغيره، ولا مداخلا له، فالعرب لا تسميه واحدا ولا أحدا، بل ولا تعرفه، فيكون الاسم الواحد والأحد دل على نقيض مطلوبهم منه، لا على مطلوبهم" (٧).وشيخ الإسلام بهذه الأدلة الكثيرة إنما يقرر قاعدة من القواعد المهمة في باب الصفات وغيرها، وهي أن تفسير النصوص – في الصفات وغيرها – إنما يرجع فيه إلى لغة الذين خوطبوا به أول مرة، وماذا فهموا من النصوص، أما أن تنشأ مصطلحات جديدة وتحمل النصوص عليها فهذا مخالف لما هو متواتر من أن القرآن هدى للناس وفيه البيان التام. وهذه من المسائل الكبرى في الخلاف بين مذهب السلف وغيرهم من أهل البدع، لأنه إذا وقع خلاف حول نص من النصوص، فقال قائل: هذا يدل على إثبات الصفات لله، وقال الآخر: لا يدل، فمن الذي يفصل في المسألة، ويبين الحق فيها، وكل يدعي أن الحق معه؟ أهل البدع من النفاة يرجعون في ذلك إلى عقولهم، أو على أقوال شيوخهم، أو إلى شواذ اللغة، أو إلى مصطلحات أهل الفلسفة التي تلقوها عن غير المسلمين.


(١) ((نقض التأسيس)) – المطبوع – (١/ ٤٨٨).
(٢) ((نقض التأسيس)) (١/ ٤٨٩) والحديث رواه البخاري (٣٥٨).
(٣) رواه البخاري (٣٥٩) ومسلم (٥١٦).
(٤) رواه البخاري (٣٥٥) ومسلم (٥١٧).
(٥) رواه البخاري (١٣٦١) ومسلم (٢٩٢).
(٦) انظر: ((نقض التأسيس)) – المطبوع – (١/ ٤٨٩ - ٤٩٢).
(٧) ((درء التعارض)) (٧/ ١١٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>