للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فلما قالوا: نعبد من يدبر أمر هذا الخلق ثم قالوا: هو مجهول لا يعرف بصفة، كان قولهم هو مجهول لا يعرف بصفة تبين للمسلمين الذين يعبدون، أنهم لا يثبتون شيئا يعبدونه، وإنما هم منافقون في ذلك، لأن ما لا يعرف بصفة يمتنع أن يقصد فيعبد، فعرف المسلمون بطلان قولهم: يعبدون الله ويثبتونه، كما عرف أهل العقل بطلان كونهم يقرون بوجوده ويثبتونه، وهم الذين أنكروا أن يعرف بصفة، فأنكروا صفاته مطلقا وأنكروا أن يشبه بالأشياء بوجه من الوجوه، فأنكروا بذلك وجوده" (١).

وكلام الإمام أحمد يدل على مبلغ علم ووعي أئمة السلف رحمهم الله، ومعرفتهم بمداخل أئمة البدع الذين يزخرفون أقوالهم بعبارات التنزيه، وهم يقصدون من وراء ذلك أن يصلوا إلى ما يهدفون إليه من نشر البدع والتعطيل. والإمام أحمد لما قرئ عليه كتاب (المحنة) – زمن المأمون – وبلغ قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: ١١]، وهو خالق كل شيء، قال الإمام أحمد عند قوله ليس كمثله شيء: وهو السميع البصير. فقال إسحاق ابن إبراهيم – عامل الخليفة – ما أردت بهذا؟ فقلت: كتاب الله عز وجل ولم أزد في كتابه شيئا كما قال ووصف تبارك وتعالى (٢). قال أحد مترجمي الإمام أحمد معلقا: "قلت: انظر كيف فتح الله على الإمام أحمد بإقامة حجته في إثبات الصفات من الآية التي احتجوا عليها بها، فكان الذي استدلوا به دليلا له لا عليه رضي الله عنه" (٣).فالإمام أحمد كان يحذر من التعطيل ومن التشبيه معا، وقد نقل شيخ الإسلام عن الطبري أنه ذكر في تاريخه – قال شيخ الإسلام: لكن أرسل ذلك والله أعلم بحقيقته (٤) – ("أنه لما قرأ على علماء بغداد من المحنة كتاب المأمون الذي دعا الناس فيه إلى التجهم، فيه: (لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه). أقر بذلك من أقر به، وأما أحمد فقال: لا أقول: لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه (٥)، وهذا يبين كمال علمه ومعرفته بالأقوال المنافية لدين الإسلام، واحترازه منها، مع أن كثيرا من الناس يطلق هذه العبارة، ويريد بذلك نفي المماثلة، ومقصوده صحيح، وقد يريد ما يجمع الحق والباطل، أو يريد تنزيها مطلقا لا يحصل معناه" (٦).وقد أعاد شيخ الإسلام في (درء التعارض) ذكر رواية الطبري حول المحنة – ولم يذكر أنها مرسلة – وقال معلقا: "والمقصود أنه ذكر في كتابه: (لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه)، فوافقه من لم يعرف حقيقة هذه الكلمة، وذكر عن أحمد أنه قال: لا يشبه الأشياء، وليس كمثله شيء، ونحو ذلك، أو كما قال، وأما قوله: "بوجه من الوجوه" فامتنع منها، وذلك لأنه عرف أنه مضمون ذلك التعطيل المحض، فإنه يقتضي أنه ليس بموجود ولا شيء ولا حي ولا عليم، ولا قدير، ويقتضي إبطال جميع أسمائه الحسنى، وهذا النفي حقيقة قول القرامطة، والله تعالى ليس كمثله شيء بوجه من الوجوه، بل هو سبحانه في كل ما هو موصوف به مختص بما لا يماثله فيه غيره وله المثل الأعلى" (٧).


(١) ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (٣/ ٢٦٣ - ٢٦٤).
(٢) انظر: ((سيرة الإمام أحمد بن حنبل، لولده صالح)) (ص: ٤٩)، و ((ذكر محنة الإمام أحمد))، لحنبل بن إسحاق بن حنبل (ص: ٣٨) – وفي المطبوعة سقط -، و ((مناقب الإمام أحمد)) لابن الجوزي (ص: ٣٨٧)، و ((محنة الإمام أحمد بن محمد بن حنبل)) لعبد الغني المقدسي (ص: ٤٢ - ٤٤).
(٣) ((الجوهر المحصل في مناقب الإمام أحمد))، تأليف محمد بن محمد بن أبي بكر السعدي الحنبلي المتوفى سنة ٩٠٠هـ (ص: ٦٩).
(٤) كأن شيخ الإسلام ابن تيمية استنكر انفراد الطبري بها، إذ لم يذكرها مترجموه، حتى الذين أفردوا كتبا لترجمته أو لمحنته.
(٥) انظر: ((تاريخ الطبري)) (٨/ ٦٣٩).
(٦) ((نقض التأسيس)) – (مخطوط ٣/ ٢٦٤).
(٧) ((درء التعارض)) (٥/ ١٨٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>