للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالجويني هنا يرد على نفسه وعلى إخوانه الأشاعرة الذين قالوا: إن القول بإثبات علو الله واستوائه على العرش يقتضي أن يكون جسما والأجسام متماثلة. ومن ثم فسروا التوحيد بنفي التشبيه عن الله وفسروه بتلك التفسيرات الباطلة، فهم بين أمرين، إما أن يقولوا بأن إثبات السمع والبصر والحياة والقدرة لله تعالى يقتضي تشبيها مثل العلو واليدين، أو يقولوا بأن إثبات العلو والاستواء واليدين والوجه لله لا يقتضي تشبيها مثل السمع والبصر والحياة. ويقول الرازي عن هذا الموضوع: "فإن قيل المشاركة في صفات الكمال يقتضي المشاركة في الإلهية. قلنا: المشاركة في بعض اللوازم البعيدة مع حصول المخالفة في الأمور الكثيرة لا تقتضي المشاركة في الإلهية. قال: ولهذا المعنى قال الله تعالى: وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ [النحل: ٦٠]، وقال –صلى الله عليه وسلم- ((تخلقوا بأخلاق الله)) (١) (٢)، قال شيخ الإسلام معلقا على هذا الكلام: "ومن المعلوم أن المشابهة هي المشاركة في صفات الكمال – التي هي العلم والقدرة – أعظم من المشابهة والمشاركة في مجرد مسمى الوجه" (٣).ثم ينقل شيخ الإسلام عن الرازي أنه قال في نهاية العقول، في مسألة تكفير المخالفين من أهل القبلة في حجة من كفر المشبهة، قال: "ورابعها: أن الأمة مجمعة على أن المشبه كافر ثم (إن) المشبه لا يخلو إما أن يكون هو الذي يذهب إلى كون الله مشبها بخلقه من كل الوجوه، أو ليس (كذلك). والأول باطل؛ لأن أحدا من العقلاء لم يذهب إلى ذلك (٤)، ولا يجوز أن يجمعوا على تكفير من لا وجود له، بل المشبه الذي يثبت الإله على صفة بشر بها معها بخلقه (٥)، والمجسم كذلك لأنه إذا أثبت جسما (بحيز) معين فإنه يشبهه بالأجسام المحدثة، فثبت أن المجسم مشبه، وكل مشبه كافر بالإجماع، فالمجسم كافر" (٦)، ثم قال الرازي في الجواب عن ذلك لأنه – أي الرازي – نصر عدم تكفير أهل القبلة: "قوله: المجسم مشبه، والمشبه كافر، قلنا: إن عنيتم بالمشبه من يكون قائلا بكون الله تشبهيا بخلقه من كل الوجوه، فلا شك في كفره، لكن المجسمة لا يقولون بذلك، فلا يلزم قولهم بالتجسيم قولهم بذلك، ألا ترى أن الشمس والقمر والنمل والبق أجسام، ولا يلزمنا اعترافنا باشتراكهما في الجسمية كوننا مشبهين للشمس والقمر والنمل والبق، وإن عنيتم بالمشبه من يقول بكون الله شبيها بخلقه من بعض الوجوه فهذا لا يقتضي الكفر لأن المسلمين اتفقوا على أنه موجود وشيء وعالم وقادر، والحيوانات أيضا كذلك، وذلك لا يوجب الكفر، وإن عنيتم بالمشبه من يقول الإله جسم مختص بالمكان، فلا نسلم انعقاد الإجماع على تكفير من يقول بذلك، بل هو دعوى للإجماع في محل النزاع فلا يلتفت إليه" (٧).قال شيخ الإسلام معلقا على كلام الرازي السابق بعد نقله: "وهذا تصريح منه بأن القول بكون الله شبيها بخلقه من بعض الوجوه داخل في قول كل المسلمين، ولا ريب أن كل موجودين فلابد أن يتفقا في شيء يشتركان فيه، وأن أحدهما أكمل فيه وأولى به من الآخر، وإلا فإذا قدر أنهما لا يتفقان في شيء أصلا ولا يشتركان فيه لم يكونا موجودين، وهذا معلوم بالفطرة البديهية التي لا يتنازع فيها العقلاء الذين يفهمونها" (٨).

فهؤلاء أئمة الأشاعرة يعترفون بهذه الحقيقة البدهية، والعجب أنهم ينسون ذلك حين يتعرضون لبعض مسلماتهم الأخرى – كنفي العلو، أو بعض الصفات – فيصمون من يقول بها ويثبتها بالتشبيه والتجسيم، ويجعلون مذهبهم النافي لها هو التوحيد!.

المصدر:موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – ٣/ ٩٤٦


(١) موضوع، قال ابن تيمية في ((تلبيس الجهمية)) (٦/ ٥١٨): لا يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم بل هو من باب الموضوعات, وقال الألباني في ((السلسلة)) (٢٨٢٢): لا أصل له.
(٢) ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (٣/ ٢٥٤ – ٢٥٤)، و ((كلام الرازي في أساس التقديس)) (ص: ٨٦ - ٨٧).
(٣) ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (٣/ ٢٥٤).
(٤) في نهاية العقول: لم يذهب إلى كون الله تعالى مشبها لخلقه من كل الوجوه.
(٥) كذا في نقض التأسيس. وفي نهاية العقول: على صفة تشبه فعلها لخلقه.
(٦) ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (٣/ ٢٥٤.) والنص في ((نهاية العقول)) (٢٩١ - أ).
(٧) ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (٣/ ٢٥٤ - ٢٥٥)، والنص في ((نهاية العقول)) (٢٩٣ - أ).
(٨) ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (٣/ ٢٥٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>