للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

زيادة فتحتاج إلى تهذيب وتقليل, الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:٣] , والأذان أحد شعائر هذا الشرع الحكيم. كل كلمة من كلماته مختارة بدقة وحكمة. وفيها سر يتناسب مع الزمان والمكان والحال. يبدأ الأذان بطرق السمع فجأة بقول المؤذن: (الله أكبر، الله أكبر) لا يخلو الإنسان من عمل يؤديه أو شاغل يشغله، وقد يكون مستغرقاً في نوم لذيذ، فإذا بصوت المؤذن يفاجئه ويطرق سمعه طرقاً (الله أكبر، الله أكبر) الله أكبر من كل شيء يشغلك، مما يكبر في نفسك أو يعز عليك! نعم: الله أكبر فتهتز المشاعر المؤمنة وتتهيأ النفوس المطمئنة, وبينما هو في ذلك يردد هاتين الكلمتين (الله أكبر، الله أكبر) يأتيه الصوت ثانية بالكلمات نفسها ليؤكد المعنى ويحرك المشاعر والنفوس مرة أخرى. إن أروع ما في هذا الصوت وهذا النداء, إنه يطرق السمع بلا استئذان ويدخل فجأة بلا مقدمات أو توسلات! إنه الحق ولا أحق من الحق وهذه الحقيقة، ولا أكبر من الله الكبير! وإنه الواجب المفروض بل هو أوجب الواجبات وأفرض الفرائض تدعى إليه بلا إطالة ولا مواريه. إن الأمر جد ولا يحتاج إلى مطاولة أو مجاملة. (أشهد أن لا إله إلا الله) والإله: هو الرب تألهه القلوب أي: تحبه وتتعلق به دون غيره فتطيعه وتعبده. إنه الآمر المطاع, والرب المعبود, فلا يجمل بعبد يسمع نداء الرب فلا يستجيب، ويتلقى أمره فلا يطيع! بل يظل في شواغله واهتماماته وعلائقه! ويأتيه النداء ثانية: (أشهد أن محمداً رسول الله) ليؤكد المعنى ويثير كوامن الإيمان في النفس مرة أُخرى. وللرب في كل وقت على عبده عمل يناسبه يعبر به العبد عن طاعته له وعلاقته وتعلقه. فما هو العمل المطلوب؟ ماذا تريد مني ـ أنا العبد ـ أيها الرب الجليل المطاع؟ وهنا يأتي النداء: (أشهد أن محمداً رسول الله) إن لكل عمل مشروع ـ ولا بد ـ شرطين: ١ـ أن يكون لله وحده. ٢ ـ أن يكون طبقاً لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم المتعلقة بذلك العمل بما شرع الله لا بالأهواء أو البدع. وقد مر الشرط الأول في الشطر الأول من الشهادة وهذا هو الشرط الثاني, أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الرسول المتبوع. وقد كان يلبي النداء ويسارع في الأداء وهو القائل: ((إن أحب العمل إلى الله الصلاة على وقتها)) (١). والقائل صلى الله عليه وسلم: ((صلوا كما رأيتموني أُصلي)) (٢). هذه المعاني وغيرها تتداعى وأنت تسمع هذا الشطر من النداء الذي يتكرر مرتين إثارة وتأكيداً. لقد كملت شروط العمل وأسبابه ومثيراته ودوافعه، ولم يبق إلا أن يفصح المنادي عن العمل المطلوب فيأتي النداء: (حي على الصلاة، حي على الصلاة) إنها الصلاة! لقد جاء الأمر بلفظ (حي) تعبيراً عن الحياة. إنك تدعى إلى ما تحيي به قلبك وروحك. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:٢٤] وبما أن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء, لذلك لا يردد السامع كلمات النداء نفسها كما هو الشأن في بقية الأذان وإنما يقول: (لا حول ولا قوة إلا بالله) أنه يتوجه إلى الله ـ جل وعلا ـ الذي (يحول بين المرء وقلبه) أن يمنحه القوة ويحوله إلى أحسن حال وينقله إلى أداء هذا العمل حيث ينبغي أن يؤدى. ولا يكتفي المنادي بذكر المطلوب دون أن يرغب فيه بما لا مزيد عليه فيقول: (حي على الفلاح, حي على الفلاح) فالصلاة هي الفلاح والفوز والظفر.


(١) رواه البخاري (٥٢٧) , ومسلم (٨٥) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(٢) رواه البخاري (٦٣١) , من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>