وأما الجبر- بفتح الجيم وسكون الباء- فمعناه إسناد ما يفعله الشخص من أعمال إلى الله عز وجل، وأن العبد لا قدرة له البتة على الفعل، وإنما هو مجبور على فعله، وحركته في الفعل بمثابة حركة النباتات والجمادات، ومن هنا فإنه لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة؛ لأن العبد مجبور على فعله لا حول له ولا قوة.
قال الإمام ابن القيم عنهم:
والعبد عندهم فليس بفاعل ... بل فعله كتحرك الرجفان
وهبوب ريح أو تحرك نائم ... وتحرك الأشجار للميلان
والله يصليه على ما لم ليس من ... أفعاله حر الحميم الآن
لكن يعاقبه على أفعاله ... فيه تعالى الله ذو الإحسان
والظلم عندهم المحال لذاته ... أنى ينزه عنه ذو السلطان
ويكون مدحاً ذلك التنزيه ما ... هذا بمقبول لدى الأذهان
والمقصود بهذا بيان مذهب الجهم الذي قرر فيه أن العبد مسلوب الإرادة والاختيار لأفعاله، مثله مثل حركة المرتعد وهبوب الرياح وحركة النائم وحركة الأشجار وتمايلها بفعل الرياح، ثم زعموا ما لا يعقله أحد إلا هم ومن قال بقولهم؛ وهو أن الله عز وجل مع أنه هو الذي جبر الإنسان على فعله ورغماً عنه، ومع ذلك فإن الله يعذبه بنار جهنم مع أن الفعل هو نفسه فعل الله فيه. وقالوا: إن هذا ليس بظلم، لأن الإنسان ملك الله؛ لأن الظلم في مفهومهم هو المحال لذاته غير المتصور وقوعه (١)، وهذا تكذيب لقول الله: ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون [البقرة:٢٨١]، وقوله تعالى: ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون [الأنعام:١٦٠]، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في هذا المعنى الذي يفيد أن الله تعالى حرم الظلم على نفسه، وقد مدح بذلك لبيان كمال عدله، فأين هذا المفهوم من مفهوم الجهمية حينما يقررون أن الإنسان مجبور على فعله، لا لوم عليه فيما يأتيه من الأفعال القبيحة والمنكرات؛ لأن موجدها إنما الله تعالى، ثم كلفه بامتثال أمره ونهيه فكيف يتصور هذا؟ يكلفه الله بالامتثال ثم يوجد فيه قوة العصيان، هذا تناقض وتكليف بما لا يطاق.
وقد أخبر الله تعالى بأن الحق هو عكس هذا المفهوم، فقال عز وجل: لا يكلف الله نفساً إلا وسعها [البقرة:٢٨٦]، وجبر العبد على فعله لا يتفق مع مضمون هذه الآية وغيرها من الآيات والأحاديث، ويصح على مفهوم هؤلاء الجهمية ألا يقال للزاني: إنه زان، ولا للسارق: إنه سارق، ولا للمصلي: إنه مصل الخ؛ لأن هذه الأفعال هي أفعال الله فيهم، وإنما هم منفذون لها. لقد أعظموا على الله الفرية وقفوا ما ليس لهم بحق!!
المصدر:فرق معاصرة لغالب عواجي ٣/ ١١٤٥ - ١١٤٨
الجهمية الذين يقولون: الله - عز وجل - يجبر العبد على كل شيء، على الخير وعلى الشر، وإنما هو كالريشة في مهب الريح إلى آخره.
ويستدلون على ذلك بقوله - عز وجل - وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى [الأنفال:١٧]، يقولون إن الذي رمى في الحقيقة هو الله - عز وجل - ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ما رمى.
وهذا قول الغلاة منهم -غلاة الجبرية-، ويرد عليهم في هذا الاستدلال على وجه الاختصار بجوابين:
(١) لأن الظلم عندهم عبارة عن الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة، والظلم كذلك لا يكون إلا من مأمور من غيره منهي وإلا ليس كذلك" - ((شرح الطحاوية)) (ص٤٤٩) أي أن الظلم عندهم هو نفي الله ما لا يقدر عليه ولا يمكن منه، أما ما كان تحت قدرة الله تعالى فليس بظلم وأفعال ناتجة عن جبر الله تعالى لهم، وهذا الاعتقاد باطل وليس هو المراد من نفي الظلم عن الله تعالى.