للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا يوجد له من الأدلة إلا ما قاله أهل الكلام حينما أرادوا الاستدلال حسب عقولهم على حدوث الأجسام حين قالوا: كل جسم حادث لا بقاء له، فالأجسام حادثة وكل ما قبل الحدوث فهو حادث، والعالم قبل الحدوث فهو حادث.

ثم زعم جهم أن الرب يمتنع عليه إيجاد حوادث لا أول لها، مخافة تعدد الآلهة إذا قلنا بوجودها، ثم قاس هذا على نهاية الحوادث، فكما أنه يستحيل عنده وجود حوادث لا أول لها، فكذلك يمتنع القول بوجود حوادث لا آخر لها لأن الله وحده هو الأول والآخر.

وقد ظن أن هذا من تنزيه الله تعالى، وهو في الواقع إساءة ظن بقدرة الله تعالى، ولم يعلم أن ما أراد الله البقاء فإنه يمتنع عليه الانتهاء، فإن الجنة أراد الله لها البقاء والنار كذلك فيستحيل أن تفنيا، وإلا كان فناؤهما تكذيبا لكتاب الله وسنة نبيه، فإن القرآن الكريم مملوء بالأخبار عن بقائهما إلى الأبد.

قال تعالى: وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ [هود:١٠٨] أي غير منقطع إلا إذا شاء الله أن يقطعه، فقوته فوق ذلك، ولكن أخبر عز وجل أنه لم يشأ أن ينقطع أبدا فيجب تصديق ذلك: ومن أصدق من الله قيلا [النساء:١٢٢].

وقال تعالى: وما هم منها بمخرجين [الحجر:٤٨]، لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى [الدخان:٥٦]، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في إثبات هذا المفهوم. وقد جاءت السنة بتأكيد ثبوت وجود الجنة والنار الآن ودوامهما في المستقبل في أحاديث كثيرة كقوله صلى الله عليه وسلم: ((من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس)) (١)، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ينادي مناد يا أهل الجنة! إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وأن تشبوا فلا تهرموا أبدا وأن تحيوا فلا تموتوا أبدا)) (٢).وورد عن ذبح الموت بين الجنة والنار ثم يقال: ((يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت)) (٣)، والمذبوح هنا ليس هو ملك الموت كما يظن البعض حاشاه من ذلك، وإنما المذبوح هو الموت نفسه على صورة كبش أملح، لأن الموت مخلوق والحياة مخلوقة كما أخبر الله تعالى.

وعن دوام النار يقول الله تعالى: فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [البقرة:٨١]، وقال تعالى: خالدين فيها أبدا [النساء:١٦٩]، وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:١٦٧]، لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها [فاطر:٣٦]

فهذه النصوص تثبت بجلاء دوام الجنة والنار، وأن المنكرين ذلك ليس لهم أي دليل إلا مجرد الاستبعاد وهو ليس بدليل، وإلا ما قاسوه بأخيلتهم الضعيفة، ولئن نازع هؤلاء في دوامهما فقد نازعوا في وجودهما الآن، حيث نفوا ذلك وأصروا على عدم وجودهما الآن بدليل أن الجنة لو كانت موجودة الآن لما ذكر في الأحاديث أن الأعمال الصالحة يغرس لصاحبها شجر في الجنة، ونسوا أن البيت الجميل المتكامل البناء والحسن، لا يمنع أن يزداد فيه من أنواع التحسينات والنقوش والزخرفة ما يزيده جمالا وحسنا.

وقد ذكر الله عز وجل في القرآن الكريم أدلة على وجودهما الآن بما لا يخفى إلا على أهل البدع، فقد قال تعالى عن الجنة: أعدت للمتقين [آل عمران:١٣٣]

وقال عن النار كذلك: أعدت للكافرين [البقرة:٢٤]، لقد أعدهما الله تعالى قبل نزول أهلهما فيهما.


(١) رواه مسلم (٢٨٣٦)
(٢) رواه مسلم (٢٨٣٧)
(٣) رواه البخاري (٤٧٣٠) ومسلم (٢٨٤٩)

<<  <  ج: ص:  >  >>