للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثالث: أنه مشتق المصدر منه اسم الفاعل والصفة المشبهة به ونحو ذلك ولا يشتق ذلك لغيره وهذا كله بين ظاهر وهو ما يبين قول السلف والأئمة أن من قال أن الله خلق كلاماً في غيره لزمه أن يكون حكم التكلم عائداً إلى ذلك المحل لا إلى الله.

الرابع: أن الله أكد تكليم موسى بالمصدر فقال تكليماً، قال غير واحد من العلماء: التوكيد بالمصدر ينفي المجاز، لئلا يظن أنه أرسل إليه رسولاً أو كتب إليه كتاباً بل كلمه منه إليه.

والخامس: أن الله فضل موسى بتكليمه إياه على غيره ممن لم يكلمه وقال وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً [الشورى:٥١] الآية، فكان تكليم موسى من وراء الحجاب، وقال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي [الأعراف:١٤٤] وقال إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:١٦٣ - ١٦٤] , والوحي هو ما نزله الله على قلوب الأنبياء بلا واسطة فلو كان تكليمه لموسى إنما هو صوت خلقه في الهواء لكان وحي الأنبياء أفضل منه، لأن أولئك عرفوا المعنى المقصود بلا واسطة، وموسى إنما عرفه بواسطة، ولهذا كان غلاة الجهمية من الاتحادية ونحوهم يدعون أن ما يحصل لهم من الإلهام أفضل مما حصل لموسى بن عمران وهذا من أعظم الكفر باتفاق المسلمين.

ولما فهم السلف حقيقة مذهب هؤلاء وأنه يقتضي تعطيل الرسالة فإن الرسل إنما بعثوا ليبلغوا كلام الله، بل يقتضي تعطيل التوحيد، فإن من لا يتكلم ولا يقوم به علم ولا حياة هو كالموات، بل من لا تقوم به الصفات فهو عدم محض إذ ذات لا صفة لها إنما يمكن تقديرها في الذهن لا في الخارج كتقدير وجود مطلق لا يتعين ولا يتخصص.

فكان قول هؤلاء مضاهياً لقول المتفلسفة الدهرية الذين يجعلون وجود الرب وجوداً مطلقاً بشرط الإطلاق لا صفة له، وقد علم أن المطلق بشرط الإطلاق لا يوجد إلا في الذهن، وهؤلاء الدهرية ينكرون أيضاً حقيقة تكليمه لموسى ويقولون إنما هو فيض فاض عليه من العقل الفعال، وهكذا يقولون في الوحي إلى جميع الأنبياء وحقيقة قولهم أن القرآن قول البشر لكنه صدر عن نفس صافية شريفة، وإذا كانت المعتزلة خيراً من هؤلاء وقد كفر السلف من يقول بقولهم فكيف هؤلاء؟ وكلام السلف والأئمة في مثل هؤلاء لا يحصى قال حرب بن إسماعيل الكرماني: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: بين أهل العلم اختلاف أن القرآن كلام الله وليس بمخلوق، وكيف يكون شيء من الرب عز ذكره مخلوقاً؟ ولو كان كما قالوا لزمهم أن يقولوا علم الله وقدرته ومشيئته مخلوقة، فإن قالوا ذلك لزمهم أن يقولوا كان الله تبارك اسمه ولا علم ولا قدرة ولا مشيئة، وهو الكفر المحض الواضح لم يزل الله عالماً متكلماً له المشيئة في خلقه، والقرآن كلام الله وليس بمخلوق فمن زعم أنه مخلوق فهو كافر.

<<  <  ج: ص:  >  >>