للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان الشرق الأدنى ينافس مصر في عدد رهبانها وراهباتها وعجائب فعالهم. فكانت أنطاكية وبيت المقدس خليتين مليئتين بالصوامع والرهبان والراهبات، وكانت صحراء سوريا غاصة بالنساك، منهم من كان يشد نفسه بالسلاسل إلى صخرة ثابتة لا تتحرك كما يفعل فقراء الهنود، ومنهم من كان يحتقر هذا النوع المستقر من المساكن، فيقضي حياته في الطواف فوق الجبال يطعم العشب البري. ويروي لنا المؤرخون أن سمعان العمودي Simeon Stylites (٣٩٠؟ - ٤٥٩) كان لا يذوق الطعام طوال الصوم الكبير الذي يدوم أربعين يوماً. وقد أصر في عام من الأعوام أثناء هذا الصوم كله على أن يوضع في حظيرة وليس معه إلا القليل من الخبز والماء. وأخرج من بين الجدران في يوم عيد الفصح فوجد أنه لم يمس الخبز أو الماء. وبني سمعان لنفسه في عام ٤٢٢ عموداً عند قلعة سمعان في شمالي سوريا وعاش فوقه. ثم رأى أن هذا اعتدال في الحياة يجلله العار فأخذ يزيد من ارتفاع العمد التي يعيش فوقها حتى جعل مسكنه الدائم فوق عمود يبلغ ارتفاعه ستين قدماً ولم يكن محيطه في أعلاه يزيد على ثلاثة أقدام، وكان حول قمته سور يمنع القديس من السقوط على الأرض حين ينام. وعاش سمعان على هذه البقعة الصغيرة ثلاثين عاماً متوالية معرضاً للمطر والشمس والبرد. وكان أتباعه يصعدون إليه بالطعام وينقلون فضلاته على سلم يصل إلى أعلى العمود، وقد شد نفسه على هذا العمود بحبل حز في جسمه، فتعفن حوله، ونتن وكثرت فيه الديدان، فكان يلتقط الدود الذي يتساقط من جروحه ويعيده إليها ويقول: (كلي مما أعطاك الله!). وكان يلقى من منبره العالي مواعظ على الجماهير التي تحضر لمشاهدته، وكثيراً ما هدى المتبربرين، وعالج المرضى، واشترك في السياسة الكنسية، وجعل المرابين يستحون فينقصون فوائد ما يقرضون من المال إلى ستة في المائة بدل اثني عشر. وكانت تقواه سبباً في إيجاد طريقة النسك فوق الأعمدة، وهي الطريقة التي دامت اثني عشر قرناً، ولا تزال باقية حتى اليوم بصورة دنيوية خالصة) (١).ومثل ذلك ذكر هرلبت في كتابه (٢). ودي سي سيندرول (٣). وستر زي غواسكي (٤). وبروكوبيوس (٥). وونكل مين (٦).

فجاء الإسلام فهذب هذه التعاليم ونقحها، وحذف منها الغلو والتطرف، ومنع الناس عن التشدد في الدين، وتعذيب النفس، وعرفهم الحنيفية السمحة البيضاء، النزيهة عن الانغماس في الدنيا والجري وراء ملذاتها وشهواتها، كما راعى جانب الطبيعة والفطرة، وأباح الطيبات من الرزق والحلال من المال، والتمتع بالجائز من الدنيا، فوضع عن الناس إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، وأمرهم بالقصد والاعتدال بين التجرد المحض والتزهد الصرف، وبين الإسراف المطلق والتقتير الفاحش، فقال جل وعلا في كتابه الذي أنزله على سيد البشر صلوات الله وسلامه عليه:


(١) قصة الحضارة لول ديورانت ترجمة عربية لمحمد بدران ج١٢ ص ١١٩ إلى ١٢٣ ط الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية القاهرة ١٩٦٤ هـ.
(٢) The Story Of The Christian Church P٨ ٨٩ ، ١٩٣٣.
(٣) A Short History Of Our Religion London ، ١٩٢٢.
(٤) Origin Christian Church Art ، ٤-٦ Oxford ، ١٩٣٣.
(٥) Buildings ، Loeb. Lib I ، ١٠.
(٦) History Of Ancient Art ، I ، ٣٥٠-١، Finlay ، ١٩٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>