للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والسادس: أنهم جعلوا لأنفسهم علما ينطق بأنهم زهاد فيوجب ذلك زيارتهم والتبرك بهم. وإن كان قصدهم غير صحيح فإنهم قد بنوا دكاكين للكوبة ومناخا للبطالة وأعلاما لإظهار الزهد. وقد رأينا جمهور المتأخرين منهم مستريحين في الأربطة من كد المعاش متشاغلين بالأكل والشرب والغناء والرقص يطلبون الدنيا من كل ظالم ولا يتورعون من عطاء ماكس. وأكثر أربطتهم قد بناها الظلمة، ووقفوا عليها الأموال الخبيثة. وقد لبس عليهم إبليس أن ما يصل إليكم رزقكم فاسقطوا عن أنفسكم كلفة الورع. فهمتهم دوران المطبخ والطعام والماء البارد. فأين جوع بشر، وأين ورع سري، وأين جد الجنيد. وهؤلاء أكثر زمانهم ينقضي في التفكه بالحديث أو زيارة أبناء الدنيا، فإذا أفلح أحدهم أدخل رأسه في زرمانقته فغلبت عليه السوداء، فيقول: حدثنا قلبي عن ربي. ولقد بلغني أن رجلا قرأ القرآن في رباط فمنعوه، وأن قوما قرأوا الحديث في رباط، فقالوا لهم: ليس هذا موضعه (١).

هذا وقد أورد ابن الجوزي حديثا بسنده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عن أبي أمامة أنه قال:

خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية من سراياه، قال: فمر رجل بغار فيه شيء من ماء، قال: فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار فيقوته ما كان فيه، وفيه شيء من ماء، ويصيب ما حوله من البقل، ويتخلى عن الدنيا. ثم قال: لو أني أتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فإن أذن لي فعلت، وإلا لم أفعل، فأتاه فقال: يا نبي الله، إني مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل فحدثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى من الدنيا. قال: فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكنني بعثت بالحنيفية السمحة، والذي نفس محمد بيده، لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها)) (٢).

وأما استماعهم إلى نصائح الرهبان ودروسهم ومواعظهم، وإنصاتهم لهم وتلمذهم عليهم، وتمجيدهم إياهم، والثناء عليهم فمنقول عنهم بكثرة، فإن إبراهيم بن أدهم – وهو من أوائل الصوفية – صرح بذلك حيث قال:

(تعلمت المعرفة من راهب يقال له: سمعان، دخلت عليه في صومعته فقلت له: يا سمعان، منذ كم وأنت في صومعتك هذه؟.

قال: منذ سبعين سنة.

قلت: ما طعامك؟

قال: يا حنيفي وما دعاك إلى هذا؟

قلت: أحببت أن أعلم.

قال: في ليلة حمصة. قلت: فمن الذي يهيج من قلبك حتى تكفيك هذه الحمصة؟

قال: ترى الذين بحذائك؟ قلت: نعم، قال إنهم يأتونني في كل سنة يوما واحدا فيزنون صومعتي، ويطوفون حولها، يعظمونني بذلك، وكلما تثاقلت نفسي عن العبادة ذكرتها تلك الساعة، فأنا أحتمل جهد سنة لعزّ ساعة، فاحتمل يا حنيفي جهد ساعة لعزّ الأبد، فوقر في قلبي المعرفة، فقال: أزيدك؟

قلت: نعم، قال: أنزل عن الصومعة، فنزلت فأدلى إلى ركوة فيها عشرون حمصة.

فقال لي: أدخل الدير فقد رأوا ما أدليت إليك، فلما دخلت الدير اجتمعت النصارى، فقالوا: يا حنيفي، ما الذي أدلى إليك الشيخ؟ قلت: من قوته، قالوا: وما تصنع به؟ نحن أحق به. ساوم، قلت: عشرين دينارا، فأعطوني عشرين دينارا، فرجعت إلى الشيخ، فقال: أخطأت لو ساومتهم عشرين ألفا لأعطوك، هذا عز من لايعبده، فانظر كيف تكون بعز من تعبده يا حنيفي، أقبل على ربك (٣).


(١) ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي الباب العاشر (ص ١٩٥، ١٩٦).
(٢) رواه أحمد (٥/ ٢٦٦) (٢٢٣٤٥) والطبراني (٧٨٦٨) قال الهيثمي في ((المجمع)) (٥/ ٢٧٩) فيه علي بن يزيد وهو ضعيف وصححه الألباني كما في الصحيحة (٢٩٢٤)
(٣) ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي الباب العاشر (ص ١٧٠، ١٧١).

<<  <  ج: ص:  >  >>