للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ونقل الهجويري عن صوفي قديم آخر، وهو: إبراهيم الخواص أنه قال: (سمعت ذات مرة أن ببلاد الروم راهبا مقيما بالدير منذ سبعين سنة بحكم الرهبانية، فقلت: واعجبا ‍! شرط الرهبانية أربعون سنة. بأي شرف أخلد هذا الرجل إلى الدير سبعين سنة؟ وقصدته، فلما اقتربت من ديره فتح كوة وقال لي: يا إبراهيم! عرفت لأي أمر جئت. أنا لم أقم هنا رهبانية في هذه السبعين عاما، بل لأن لي كلبا هائجا، فأقمت هنا أحرسه وأكفي الخلق شره، وإلا فلست أنا هذا (الذي تظن). فلما سمعت منه هذا الكلام قلت: يا إلهي تعاليت! أنت قادر على أن تهدي العبد طريق الصواب في عين الضلالة، وتكرمه بالصراط المستقيم. فقال لي: يا إبراهيم! إلام تطلب الناس؟ إمض واطلب نفسك، وإذا وجدتها فاحرسها، لأن الهوى يرتدي ثوب الإلهية كل يوم على ثلثمائة وستين لونا، ويدعو العبد إلى الضلالة (١).

وذكر الشعراني أن بعض أسلاف الصوفية حاولوا تقرير مذهب رهبان النصارى، وكونهم على الحق والصواب، ومن قبل رسول الله الناطق بالوحي صلوات الله وسلامه عليه – كذبا وزورا -: (أن قوله صلى الله عليه وسلم: ((دعوا الرهبان وما انقطعوا إليه))، تقرير لهم على ما هم عليه من حيث عموم رسالته صلى الله عليه وسلم كما قرر أهل الكتاب على سكنى دار الإسلام بالجزية. قالوا: وهي مسألة خفية جليلة في عموم رسالته صلى الله عليه وسلم. لا ينتبه لها إلا الغواصون على الدقائق (٢).

هذا ولقد ذكر في طبقاته عن صوفي آخر – وهو إبراهيم بن عصفير – الذي يقول عنه: (كان كثير الكشف، وله وقائع مشهورة، وظهرت له الكرامات وهو صغير، وكان يأتي البلد وهو راكب الذئب أو الضبع، وكان يمشي على الماء لا يحتاج إلى مركب، وكان بوله كاللبن الحليب أبيض، ... وما ضبطت عليه كشفا أخرم فيه. يكتب عن هذا الصوفي الذي بلغ أقصى درجات الولاية: (كان أكثر نومه في الكنيسة، ويقول: النصارى لا يسرقون النعال في الكنيسة بخلاف المسلمين، وكان رضي الله عنه يقول: أنا ما عندي من صوم حقيقة إلا من لا يأكل لحم الضأن أيام الصوم كالنصارى، وأما المسلمون الذين يأكلون لحم الضأن والدجاج أيام الصوم فصومهم عندي باطل (٣).

وكذلك وجد مدح الرهبان النصارى في كتب صوفية كثيرة مثل ما ذكر الأصبهاني في حليته عن عبد الله بن الفرج أنه قال له رجل:

(يا أبا محمد، هؤلاء الرهبان يتكلمون بالحكمة وهم أهل كفر وضلالة، فمم ذلك؟ قال: ميراث الجوع، متعت بك (٤).

وأيضا ذكر عن إبراهيم بن الجنيد أنه قال:

وجدت هذه الأبيات على ظهر كتاب لمحمد بن الحسين البرجلاني:

(مواعظ رهبان وذكر فعالهم ... وأخبار صدق عن نفوس كوافر

مواعظ تشفينا فنحن نحوزها ... وإن كانت الأنباء عن كل كافر

مواعظ بر تورث النفس عبرة ... وتتركها ولهاء حول المقابر

مواعظ أنَّى تسأم النفس ذكرها ... تهيج أحزانا من القلب ثائر)

ومثل ذلك ما نقله أبو طالب المكي عن عيسى عليه السلام أنه قال:

(المحب لله يحب النصب. وروى عنه أنه مر على طائفة من العباد قد احترقوا من العبادة كأنهم الشنان البالية، فقال: ما أنتم؟

فقالوا: نحن عباد. قال: لأي شيء تعبدتم؟

قالوا: خوفنا الله من النار فخفنا منها، فقال: حق على الله أن يؤمنكم ما خفتم.

ثم جاوزهم فمر بآخرين أشد عبادة منهم، فقال: لأي شيء تعبدتم؟


(١) ((كشف المحجوب)) للهجويري ترجمة عربية (ص٤٣٩) ط دار النهضة العربية بيروت.
(٢) ((الجواهر والدرر)) للشعراني (ص٢٣٧) بهامش الابريز للدباغ ط مصر.
(٣) ((الطبقات الكبرى)) للشعراني (٢/ ١٤٠).
(٤) ((حلية الأولياء)) للأصبهاني (١٠/ ١٥١) الطبعة الثالثة دار الكتاب العربي بيروت لبنان ١٩٨٠ م.

<<  <  ج: ص:  >  >>