والجدير بالذكر، ومن الأشياء اللافتة للأنظار أن كل من حاول تبرئة التصوف عن كونه مأخوذا ومقتبسا من الرهبنة المسيحية لم يسعه الإنكار عن كون المسيحية إحدى مصادر التصوف، وأنه استفاد منها، ولو أنهم أصروا مع ذلك كونه إسلاميا بحتا، معارضين مع ما قالوه، ومناقضين مع ما أثبتوه، مقرين عليهم بالتعارض الفكري، والتضارب القولي، وإنكار ما هو ثابت لا يمكن رده ولا إنكاره، فيقول واحد من هؤلاء – ولا حظ الزحزحة الفكرية، والتناقض الشديد، والتعارض الغريب، والعجز الظاهر عن الدفاع، وضعف القوة وقلة الحيلة، مع الإنكار والإقرار في وقت واحد، لاحظ واقرأ واستمع – فيقول أحد الكتاب - وهو دكتور في العلوم – ردا على من يجعل النصرانية إحدى مصادر التصوف:
(لم يقتصر الكلام في المصادر الصوفية على المصدر الفارسي أو الهندي بل ذهب فريق آخر من الباحثين إلى أن ثمة عناصر أخرى روحية يمكن أن ترد أصولها إلى أصول نصرانية.
ويؤيد هذا الفريق مذهبه بما كان يوجد من صلات بين العرب والنصارى سواء في الجاهلية أو في الإسلام، وبما يلاحظ من أوجه الشبه الكثيرة بين حياة الزهاد والصوفية وتعاليمهم وفنونهم في الرياضة والخلوة والتعبد. وبين ما يقابل هذا كله في حياة المسيح وأقواله وأحوال الرهبان والقسيسين وطرقهم في العبادة واللباس.
ومن الباحثين والمؤيدين: لهذا الاتجاه (فون كريمر، وجولدزيهر، ونيكولسون وفلسنك وآسين وبلاسيوس، وأندريه وأوليري.
ويرى: (فون كريمر): أن التصوف الإسلامي والأقوال المأثورة عن الصوفية على أنهما ثمرات نمت وترعرعت ونضجت في بلاد العرب تحت تأثير جاهلي، حيث كان كثير من العرب الجاهلين نصارى، وكان كثير من هؤلاء النصارى قسيسين ورهباناً.
وجولد زيهر: يستند إلى ما تقرره النصرانية من إيثار الفقر والفقراء على الغنى والأغنياء، فيزعم أن ما ورد في الحديث النبوي من هذا المعنى مستمد من النصرانية، ويعني هذا أن يترتب عليه أن الفقر والتخشن في الحياة إنما يرجع إلى أصل نصراني، ويضيف عليه نيكولسون أيضاً. ما يصطنعه الصوفية من صمت وذكر فيزعم أنه مأخوذ من النصرانية.
هذا من حيث: أن التصوف زهد وطريقة في العبادة والرياضة واللباس.
أما فيما يتعلق بها من حيث هي مذاهب تصور منازع أصحابها الفلسفية واتجاهاتهم الروحية والفلسفية معاً: فإن هناك طائفة من القصص والأقوال التي تروي عن المسيح مما ورد في كتب الصوفية أنفسهم، ويمكن أن يؤخذ على أنه مصدر لبعض المذاهب الصوفية الإسلامية ....
على أننا لا ننكر ولا أحد يستطيع أن ينكر ما يوجد من أوجه الشبه بين حياة الزهاد ولباسهم وبعض تعاليم الصوفية وطرقهم في العبادة ومذاهبهم في الحب الإلهي، وبين حياة الرهبان ولباسهم، وبعض ما اثر عن المسيح وحوارييه من أقوال في المحبة وغيرها من شيءون الحياة الروحية.
فإننا لا نستطيع مع ذلك أن نجزم بأن مصدر التصوف والحياة الروحية في الإسلام إنما هو نصراني صرف.
فصحيح أيضا أنه كان ممن مال إلى الرهبنة من العرب من يبني الأديرة – فقد روى عن حنظلة الطائي أنه فارق قومه وتنسك، وبنى ديراً بالقرب من شاطئ الفرات حيث ترهب فيه حتى مات، وكذلك قيل عن قس بن ساعدة كان يتقفر القفار، ولا تكنه دار، يتحسس بعض الطعام، ويأنس بالوحوش والهوام.