للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومنذ القرن الثاني وما بعده وحين بدأ المسلمون بنقل كتب الشعوب الأخرى واتسعت دائرة العلوم، ترجم مقدار من آثار البوذية والهندية مما يدخل في باب التصوف العملي أي الزهد وترك الدنيا ووصف العبادات والتقاليد الهندية والبوذية في هذا الباب، ناهيك بنقل كتب هندية وبوذية في القرن الثاني للهجرة والصلات التجارية والاقتصادية القائمة بين المسلمين والهنود في أوائل الخلافة العباسية وقد انتشرت طائفة من تاركي الدنيا والسائحين من الهنود والمانويين في العراق وسائر البلاد الإسلامية الأخرى وكما كانوا يتحدثون في القرن الأول عن الرهبان والسائحين مع المسيحيين كذلك أخذوا يتحدثون في القرن الثاني عن رهبان وسياح ممن لم يكونوا مسلمين ولا نصارى وهم الذين سماهم الجاحظ (رهبان الزنادقة) واعتبرهم من زهاد المانوية.

قال الجاحظ: (إن هؤلاء سياح والسياحة بالنسبة لهم في حكم التوقف واعتزال الساطرة في الصوامع والأديرة، وتلك الجماعة يسافرون دائما اثنين اثنين ويسيحون بحيث إذا رأى الإنسان واحدا منهم يتيقن أن الثاني ليس ببعيد عنه إلى حد ما، وسيظهر قريبا. ومن عاداتهم أنهم لا ينامون ليلتين في مكان واحد، ولهؤلاء السياح خصال أربع: القدس والطهر والصدق والمسكنة).وهؤلاء السياح تركوا بدورهم أثرا في صوفية المسلمين كما أثر فيهم أيضا السياح والمتجولون والمرتاضون من البوذيين الذين أذاعوا قصة بوذا وقدموه مثالا للزهد والإعراض عن الدنيا، بحيث أن المرتاضين كانوا يعرفونه في كتاباتهم بالمثال الكامل للزهد. وهو الأمير القوي الشكيمة الذي رمى الدنيا ظهريا وحرر نفسه. أو يقولون أنه أسير جدير بالثناء خليق بالاحترام متزييا بزي الفقراء. وهذا الموضوع أوجد قصصا ذات صور مختلفة والنقطة الهامة التي يجب ألا تنسى هي أن الديانة البوذية كانت قد انتشرت في شرق إيران أي بلخ وبخارى وفي ما وراء النهر كذلك قبل الإسلام بأكثر من ألف سنة، وكانت لها صوامع ومعابد مشهورة وكانت معابد بلخ البوذية أكثر شهرة بنوع خاص، وصارت بلخ ونواحيها من أهم المراكز الصوفية في القرون الإسلامية الأولى، وكان صوفيو خراسان يعدون في الرعيل الأول من الصوفية في الشجاعة الفكرية والحرية الشخصية، والعقيدة المعروفة (بالفناء في الله) المقتبسة من الأفكار الهندية إلى حد ما والتي انتشرت على الأكثر بواسطة صوفية خراسان. مثل أبي يزيد البسطامي وأبي سعيد الخير (١).

وقبل أن ننتقل إلى فكرة أخرى نريد أن نلفت الأنظار إلى أن معتنقي البوذية والجينية والديانات الهندية الأخرى كان لهم أن يترهبوا، ويتجردوا عن الدنيا وما فيها، ويختاروا العزلة والخلوة، ويتيهوا في المفاوز والخلوات، ويعيشوا في المغارات والخانقاوات، ويعذبوا أنفسهم، ويأتوا بالمجاهدات والرياضات، ويتحملوا المشاق، ويتعمقوا في المراقبات والمكاشفات وغير ذلك من الأمور، لأن قادتهم وزعماءهم، هداتهم ومرشديهم فعلوا مثل ذلك لحصول المعرفة، واكتشاف الحق، والوصول إلى طمأنينة الروح والقلب، والاتصال بالخالق والاتحاد به – حسب زعمهم – تشبها لهم واقتداء بهم، وتمسكا بأسوتهم، واقتفاء آثارهم ومناهجهم.

فعلى المتبعين أن يسلكوا جميع تلك المراحل التي سلكها سادتهم وكبراؤهم، وأن يكابدوا في هذا السبيل تلك الآلام التي تكبدها أولئك.

وكذلك النصارى.

أولا: لأنه نقل عن مسيحهم ما يشجعهم على التبتل والعزلة.


(١) ((تاريخ التصوف في الإسلام)) ترجمة عربية لصادق نشأت (ص ٢٢١ – ٢٢٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>