ثانيا: أن حواريي المسيح، وقدّيسي المسيحية الأوائل تحملوا أنواعا من العذاب في سبيل التمسك بمذهبهم، فأوذوا وأجبروا على ترك المساكن والمواطن وعاشوا في الصحاري والمغارات فرارا بدينهم، وحفاظا على إيمانهم، فحبس منهم وقتّل منهم كثيرون، وعذّب الآخرون.
فتأسيا بهم وتقديرا لهم حرموا أنفسهم من ملذات الدنيا ونعيمها، وألزموا عليهم العزبة والجوع والمشاق، وهجروا العيش بين الأهل والأولاد.
وأما المسلمون فلا نبيّهم أمرهم بذلك، ولا أصحابه ورفاقه الأبرار خيرة خلق الله، وأبرار هذه الأمة عملوا به، ودينهم دين الاعتدال والدين الوسط، الناسخ لجميع الشرائع السماوية منها والأرضية، الإلهامية وغير الإلهامية.
وما لم يكن فيهما فهو ابتداع وإحداث فيه، وليس منه، ولا له علاقة به.
ولا ندري ممن أخذ متصوفة المسلمين ونساكهم من المسلمين هذا المنهج والمسلك الذي بنوا عليه تصوفهم وزهدهم. اللهم إلا ممن ذكرناهم من المسيحية، وأصحاب الديانات الهندية، وهذه أحوال معتدلي الصوفية ومتقدميهم.
وأما المتطرفون والمتأخرون فقد زادوا على هذين المصدرين مصدرا آخر استقوا منه فلسفتهم ومشربهم، وتشبثوا بآرائه ومقولاته. وهو الأفلاطونية الحديثة.