للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويمثل الحلول العام البسطامي في قوله: "رفعني مرة فأقامني بين يديه وقال لي: يا أبا يزيد إن خلقي يحبون أن يروك، فقلت: زينني بوحدانيتك وألبسني أنانيتك وارفعني إلى أحديتك حتى إذا رآني خلقك قالوا رأيناك، فتكون أنت ذلك ولا أكون أنا هناك". مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا [الكهف:٥].

وهذا الطلب الغريب العجيب يريد به أبو يزيد البسطامي كما تقدم أن يحتال على الله عز وجل ليصبغ عليه الوحدانية ويرفع ما بينه وبين البسطامي من الإنية بحيث إذا قال الله عز وجل "أنا" وقال البسطامي "أنا" انعدم الفرق بينهما، وحينئذ يمثل البسطامي الله عز وجل تمام المماثلة، فإذا شوهد البسطامي شوهد عند ذلك الخلاق العظيم – سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

وليس هذا فقط، بل أحياناً يختلط الحابل بالنابل فيحصل بين الرب والعبد مدّ وجزر حسب ما يتصوره ابن عربي في قوله:

ففي حال أقربه ... وفي الأحيان أجحده

فيعرفني وأنكره ... وأعرفه فأشهده

فإني بالغني وأنا ... أساعده وأسعده

فيحمدني وأحمده ... ويعبدني وأعبده (١)

ولعله بعد هذه المراوغة استقر الأمر على أن الله هو نفسه كل موجود على ظهر الأرض؛ فهو العاشق والمعشوق، والرجل والمرأة، فالأجسام صور عنه، وذلك في قوله:

فمن ليلى ومن لبنى ... ومن هند ومن بثينه

ومن قيس ومن بشر ... أليسوا كلهم عينه (٢)

وفي قوله أيضاً:

فعين الخلق عين الحق فيه ... فلا تنكر فإن الكون عينه

فإن فرقت فالعرفان باد ... وإن لم فاعتبر فالبين بينه (٣)

وقد ملأ كتابه الذي سماه بـ (الفتوحات المكية) أشعاراً وشروحاً لها حول هذا الاتحاد والحلول.

ويقول ابن الفارض عن الذات الإلهية كما يتصور:

ففي النشأة الأولي تراءت لآدم ... بمظهر حوا قبل حكم النبوة

وتظهر للعشاق في كل مظهر ... من اللبس في أشكال حسن بديعة

ففي مرة لبنى وأخرى بثينة ... وآونة تدعى بعزة عزت (٤)

ومن هنا نشأ عند ابن الفارض الفوضى الفكرية في تداخل جميع الأديان الحق منها والباطل، حتى صارت بجميع أشكالها شكلاً واحداً، فكأنه أراد أن يجمع بين الليل والنهار، والحار والبارد، والحق والباطل، فتصور أن الملل كلها سواء كانت شركية وثنية أو مجوسية أو نصرانية أو يهودية، الكل عنده يرجع إلى مصدر واحد وحقيقة واحدة هي الله.

وتائيته المشهورة مليئة بتأكيد هذا الخلط والاضطراب، فهو بعد أن قرر أن جميع العبادات وجميع الأفعال التي تصدر عن الناس هي نفسها أفعال الله قال عن المجوس:

وإن عبد النار المجوس وما انطفت ... كما جاء في الأخبار في ألف حجة

فما عبدوا غيري وإن كان قصدهم ... سواي وإن لم يعقدوا عقد نيتي

رأوا ضوء ناري مرة فتوهموه ... ناراً فضلوا في الهدى بالأشعة (٥)

وكثير من مثل هذا الهذيان في أشعارهم هو وسائر غلاة الصوفية ممكن هم على شاكلته أنهم يتصورون معبودهم يتجلى في صورة امرأة؛ ولهذا نجد أن الصوفية يلهجون بذكر النساء، ويرونهم أكمل وأتم وأجمل لتعينات الذات الإلهية التي يعتقدونها فيهن، وهذا واضح جداً في تلك العناية التي لقيتها المرأة في الأدب الصوفي من التذلل لها والتشبث بها والتفتن في وصفها.


(١) ((الفتوحات المكية)) (٣/ ٤٩٨).
(٢) ((الفتوحات المكية)) (ص٥٢١).
(٣) ((الفتوحات المكية)).
(٤) ((تائية ابن الفارض)).
(٥) ((تائية ابن الفارض)).

<<  <  ج: ص:  >  >>