وقد نقل شيخ الإسلام نصا لأبي نصر السجزي في رسالته المعروفة إلى أهل زبيد - والتي تسمى باسم: الرد على من أنكر الحرف والصوت - بين فيه نشأة قول ابن كلاب ومن اتبعه في كلام الله فقال:"اعلموا - أرشدنا الله وإياكم - أنه لم يكن خلاف بين الخلق على اختلاف نحلهم من أول الزمان إلى الوقت الذي ظهر فيه ابن كلاب والقلانسي والأشعري وأقرانهم - الذين يتظاهرون بالرد على المعتزلة، وهم معهم، بل أخس منهم في الباطن - من أن الكلام لا يكون إلا حرفا وصوتا، ذا تأليف واتساق، وإن اختلفت به اللغات، وعبر عن هذا المعنى الأوائل الذين تكلموا في العقليات وقالوا: الكلام حروف منسقة،، وأصوات مقطعة، وقالت (العرب) - يعني علماء العربية -: الكلام اسم وفعل وحرف جاء لمعنى، فالاسم مثل زيد وعمرو، والفعل مثل جاء وذهب، والحرف الذي يجيء لمعنى مثل هل وبل وقد، وما شاكل ذلك، فالإجماع منعقد بين العقلاء على كون الكلام حرفا وصوتا.
فلما نبغ ابن كلاب وأضرابه، وحاولوا الرد على المعتزلة من طريق مجرد العقل، وهم لا يخبرون أصول السنة، ولا ما كان السلف عليه، ولا يحتجون بالأخبار الواردة في ذلك، زعما منهم أنها أخبار آحاد وهي لا توجب علما، وألزمتهم المعتزلة أن الاتفاق حاصل على أن الكلام حرف وصوت، ويدخله التعاقب والتأليف ... قالوا: فعلم بهذه الجملة أن الكلام المضاف إلى الله تعالى خلق له، أحدثه وأضافه إلى نفسه، كما نقول: خلق الله، وعبدالله، وفعل الله.
فضاق بابن كلاب وأضرابه النفس عند هذا الإلزام لقلة معرفتهم بالسنن، وتركهم قبولها، وتسليمهم العنان إلى مجرد العقل. فإلتزموا ما قالته المعتزلة، وركبوا مكابرة العيان, خرقوا الإجماع المنعقد بين الكافة: المسلم والكافر، وقالوا للمعتزلة: الذي ذكرتموه ليس بحقيقة الكلام، وإنما سمى ذلك كلاما على المجاز لكونه حكاية أو عبارة عنه، وحقيقة الكلام: معنى قائم بذات المتكلم، فمنهم من اقتصر على هذا القدر، ومنهم من احترز عما علم دخوله على هذا الحد، فزاد فيه: "تنافي السكوت والخرس والآفات المانعة فيه من الكلام، ثم خرجوا من هذا إلى أن إثبات الحرف والصوت في كلام الله تجسيم، وإثبات اللغة تشبيه، وتعلقوا بشبه منها قول الأخطل:
إن البيان من الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا (١)
(١) لم أجده في ديوانه - صنعة السكرى -، وكثيرا ما يورده الأشاعرة في كتبهم. انظر ((التمهيد للباقلاني)) (ص: ٢٥١) - ت مكارئي، و ((الاقتصاد في الاعتقاد)) للغزالي (ص: ٧٥)، و ((غاية المرام)) (ص: ٩٧)، وذكر المحقق في الحاشية أن بعض طابعي ديوان الأخطل أضافوا هذا البيت إلى ما نسب إليه. وانظر الرد على ((من أنكر الحرف والصوت)) (ص: ٩٢ - ٩٣) - حاشية المحقق. وقال شيخ الإسلام في ((الإيمان)) (ص: ١٣٢) - ط المكتب الإسلامي: "من الناس من أنكر أن يكون هذا من شعره، وقالوا: أنهم فتشوا دواوينه فلم يجدوه. وهذا يروى عن أبي محمد الخشاب. وقال بعضهم: لفظه: إن البيان لفي الفؤاد ... "، وانظر: ((مجموع الفتاوى)) (٦/ ٢٩٦ - ٢٩٧).