للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كما أن قول الله عز وجل: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:١٣ - ١٤] لا يعني نعيم الآخرة للأبرار وجحيم الآخرة للفجار، بل الأبرار في نعيم الدنيا، وفي دار البرزخ، وفي الآخرة، وإن كان نعيم الدنيا دون نعيم الآخرة، كما أن العذاب في الدنيا دون عذاب الآخر ة كما قال الله تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة:٢١] والعذاب الأدنى في الآية يقصد به عذاب الدنيا لقوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ولا يكون ذلك إلا في الدنيا، واستدل بها ابن عباس على عذاب القبر قوله تعالى مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى ولم يقل (العذاب الأدنى) فدل على أنهم بقيت لهم من العذاب الأدنى بقية، يعذبون بها في القبور.

وظهر الفلاح والنجاح كذلك في هؤلاء الصحابة الكرام، فعزوا في الدنيا وسادوا لأنهم استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابهم القرح، هذا مع ما ينتظرهم في الآخرة من موعود الله عز وجل لهم بالجنة كما قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: ١٠٠]

فمن أراد سعادة الدارين فعليه أن يتعهد نفسه بالإصلاح والتزكية؛ فكما أن السموات والأرض لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، فكذلك قلوب العباد، لو كان فيها آلهة إلا الله لفسدت بذلك فسادا لا يرجى له صلاح، حتى تعرف ربها عز وجل وتعبده بأمره ونهيه، والنفوس الجاهلية حتى تترقى في محبة الله عز وجل وولايته تحتاج إلى رفق ومداراة حتى تصير سعادتها في الطاعات والعبادات قال بعض السلف: عالجت قيام الليل سنة وتمتعت به عشرين سنة. فالعاقل هو الذي يعالج نفسه ويجبرها على ما فيه سعادتها، وهذه المعالجة لن تطول بإذن الله، فلا تلبث نفس العبد أن تتعلم وتذوق حلاوة الطاعات وترك المعاصي، نصحت إحدى الصالحات من السلف بنيها فقالت لهم: (تعودوا حث الله وطاعته، فإن المتقين ألفت جوارحهم الطاعة فاستوحشت من غيرها، فإذا أمرهم الملعون بمعصية مرت المعصية بهم محتشمة فهم لها منكرون).وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حلاوة الإيمان، وبين أن الذي يذوق هذه الحلاوة من أخلص حبه لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولعباده المؤمنين فقال صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه الله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)) (١) قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: إنما عبر بالحلاوة لأنه شبه الإيمان بالشجرة في قوله كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ [إبراهيم:٢٤]، فالكلمة هي كلمة الإخلاص، والشجرة أصل الإيمان، وأغصانها أتباع الأمر واجتناب النهي وورقها ما يهتم به المؤمن من الخير وثمرها عمل الطاعات، وحلاوة الثمر جنى الشجرة وغاية كماله تناهي نضج الثمرة وبه ظهر حلاوتها) (٢).

المصدر:التزكية بين أهل السنة والصوفية لأحمد فريد - ص ٧ - ١٦


(١) رواه البخاري (٦٩٤١) ومسلم (٤٣)
(٢) ((فتح الباري)) (١/ ٦٠) السلفية.

<<  <  ج: ص:  >  >>