للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: ١٣].وقال: وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا [النساء: ١١٦] وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاما يدعو إلى التوحيد وكان القرآن المكي دعوة للتوحيد، وبان ما أعده الله عز وجل لأهل التوحيد، وكذلك ما أعده للمعرضين عن توحيده، وكيف نصر الله عز رجل أولياءه الموحدين، وأهلك الكافرين والمعاندين، حتى استنارت قلوب الصحابة بأنوار التوحيد، وظهر هذا النور على جوارحهم فأثمر فعل الطاعات وترك المعاصي، كما قيل في قول الله عز وجل ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا [إبراهيم: ٢٤ - ٢٥] فالكلمة الطيبة هي كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) أصلها ثابت في قلب المؤمن، وفرعها من الأعمال الصالحة في السماء صاعد إلى الله عز وجل، ونقصد بالتوحيد الذي تزكو به النفوس التوحيد الذي علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ((الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره)) (١) والإيمان بالله هو ركن التوحيد الأعظم ويشمل الإيمان بربو بيته وأسمائه وصفاته وإفراده عز وجل بجميع ألوان العبادة تصديقا لقولنا (لا إله إلا الله).

ولا يكفي في توحيد الأسماء والصفات. وتوحيد الربوبية أن نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتا بلا تشبيه وتنزيها بلا تعطيل، بل ينبغي أن تتعبد قلوبنا لله عز وجل بصفات الربوبية، وأسمائه وصفاته، والتحقق بتوحيد المعرفة هو السبيل كذلك لتمام العبودية وكمالها لله عز وجل.

قال ابن القيم رحمه الله في وصف السابقين بالخيرات:

وجملة الأمر أنهم قوم قد امتلأت قلوبهم من معرفة الله، وغمرت بمحبته وخشيته وإجلاله ومراقبته، فسرت المحبة في أجزائهم، فلم يبق فيها عرق ولا مفصل إلا وقد دخله الحب، قد أنساهم حب ذكره غيره، وأوحشهم أنسهم به ممن سواه، قد فنوا بحبه عن حب من سواه، وبذكره عن ذكر من سواه، وبخوفه ورجائه والرغبة إليه والرهبة منه والتوكل عليه والإنابة إليه والسكون إليه والتذلل والانكسار بين يديه، عن تعلق ذلك منهم بغيره، فإذا وضع أحدهم جنبه على مضجعه صعدت أنفاسه إلى إلهه ومولاه واجتمع همه عليه، متذكرا صفاته العلى وأسماءه الحسنى، مشاهدا له في أسمائه وصفاته، قد تجلت على قلبه أنوارها فانصبغ قلبه بمعرفته ومحبته، فبات جسمه على فراشه يتجافى عن مضجعه، وقلبه قد آوى إلى مولاه وحبيبه فآواه إليه، وأسجده بين يديه خاضعا خاشعا ذليلا منكسرا من كل جهة من جهاته، فيالها من سجدة ما أشرفها. من سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء.


(١) رواه مسلم (٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>