للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقيل لبعض العارفين: أيسجد القلب بين يدي ربه، قال: إي والله بسجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم القيامة. فشتان بين قلب يبيت عند ربه، قد قطع في سفره إليه بيداء الأكوان وخرق حجب الطبيعة، ولم يقف عند رسم، ولا سكن إلى علم حتى دخل على ربه في داره فشاهد عز سلطانه وعظمة جلاله، وعلو شأنه وبهاء كماله، وهو مستو على عرشه يدبر أمر عباده، ويصعد إليه شيءون العباد، تعرض عليه حوائجهم وأعمالهم فيأمر فيها بما يشاء، فينزل الأمر من عنده نافذا كما أمر، فيشاهد الملك الحق قيوما بنفسه مقيما لكل ما سواه، غنيا عن كل من سواه فقيرا إليه (كل من عداه) (١) يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن: ٢٩] يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويفك عانيا وينصر ضعيفا، ويجبر كسيرا، ويغنى فقيرا، ويميت ويحي، ويسعد ويشقى، ويضل ويهدى، وينعم على قوم ويسلب نعمته عن آخرين، ويعز أقواما ويذل آخرين، ويرفع أقواما ويضع آخرين (٢).

إلى أن قال رحمه الله:

وجماع الأمر في ذلك إنما هو تكميل عبودية الله في الظاهر والباطن، فتكون حركات نفسه وجسمه كلها في محبوبات الله، وكمال عبودية العبد موافقته لربه في محبته ما أحبه، وبذل الجهد في فعله، وموافقته في كراهة ما كرهه، وبذل الجهد في تركه، وهذا إنما يكون للنفس المطمئنة لا للأمارة ولا للوامة فهذا كمال من جهة الإرادة والعمل. وأما من جهة العلم والمعرفة فأن تكون بصيرته منفتحة في معرفة الأسماء والصفات والأفعال. له شهود خاص فيها، مطابق لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، لا مخالف له، فإن بحسب مخالفته له في ذلك يقع لانحراف، ويكون ذلك قائما بأحكام العبودية الخاصة التي تقتضيها كل صفة بخصوصها، وهذا سلوك الأكياس الذين هم خلاصة العالم، والسالكون كل هذا الدرب أفراد من العالم، طريق سهل قريب موصل طريق آمن، اكثر السالكين في غفلة عنه، ولكن يستدعى رسوخا في العلم ومعرفة تامة به، وإقداما على رد الباطل المخالف له ولو قاله من قاله (٣).كذلك كانت تزكية النبي صلى الله عليه وسلم لنفوس أصحابه من شرك الألوهية كلما سنحت فرصة. قال للصحابة يوما على إثر سماء من الليل، ((أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر: فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)) (٤) وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان)) (٥).

وكذلك قصة ذات الأنواط وغير ذلك مما كان يزكي به النبي صلى الله عليه وسلم قلوب أصحابه حتى صاروا أبر الأمة قلوبا وأعمقها علما.

٢ - التزكية بفعل الواجبات وترك المحرمات: وهذه تزكية واجبة بعد التزكية بالتوحيد، وأولى ما يتقرب به العبد إلى ربه بعد توحيد الله عز وجل أداء الفرائض واجتناب المحرمات، والعمدة في ذلك حديث الولي في صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: ((وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى مما افترضته عليه)) (٦).


(١) زيادة لا يستقيم المعنى إلا بها.
(٢) ((طريق الهجرتين)) (٢٨٧).
(٣) ((طريق الهجرتين)) (٢٩٩، ٣٠٠).
(٤) رواه البخاري (٤١٤٧) ومسلم (٧١).
(٥) رواه أبو داود (٤٩٨٠) وأحمد (٥/ ٣٨٤) (٢٣٣١٣) والبيهقي (٣/ ٢١٦) وصححه الألباني في ((الصحيحة)) رقم (١٣٧).
(٦) رواه البخاري (٦٥٠٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>