للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبالجملة فهذه (مسألة السماع) تكلم كثير من المتأخرين في السماع هل هو محظور أو مكروه أو مباح، وليس المقصود بذلك مجرد رفع الحرج بل مقصودهم بذلك أن يتخذ طريقا إلى الله يجتمع عليه أهل الديانات لصلاح القلوب والتشويق إلى المحبوب والتخويف من المرهوب والتحزن على فوات المطلوب، فتستنزل به الرحمة وتستجلب به النعمة وتحرك به مواجيد أهل الإيمان وتستجلي به مشاهد أهل العرفان حتى يقول بعضهم، إنه أفضل لبعض الناس أو للخاصة من سماع القرآن من عدة وجوه، حتى يجعلونه قويا للقلوب، وغذاء للأرواح، وحاديا للنفوس، يحدوها إلى السير إلى الله ويحثها على الإقبال عليه.

ولهذا يوجد من اعتاده واغتذى به لا يحن إلى القرآن، ولا يفرح به، ولا يجد في سماع الآيات كما يجد في سماع الأبيات، بل إذا سمعوا القرآن سمعوه بقلوب لاهية وألسن لاغية، وإذ سمعوا سماء المكاء والتصدية خضعت الأصوات، وسكنت الحركات وأصغت القلوب وتعاطت المطلوب. وقال رحمه الله: ومن كانت له خبرة بحقائق الدين وأحوال القلوب ومعارفها وأذواقها ومواجيدها عرف أن سماع، المكاء والتصدية لا يجلب للقلوب منفعة ولا مصلحة إلا وفي ضمن ذلك من الضرر والمفسدة ما هو أعظم منه، فهو للروح كالخمر للجسد، يفعل في النفوس فعل حميا الكؤوس، ولهذا يورث أصحابه سكرا أعظم من سكر الخمر فيجدون فيه لذة بلا تمييز، كما يجد الشارب بل يحصل لهم أكثر وأكبر مما يحصل لشارب الخمر، يصدهم ذلك عن ذكر الله وعن الصلاة أعظم مما يصدهم الخمر، ويوقع بينهم العداوة والبغضاء أعظم من الخمر، حتى يقتل بعضهم بعضا من غير مس يد بل بما يقترن بهم من الشياطين، فإنهم يحصل لهم أحوال شيطانية بحيث تتنزل عليهم الشياطين في تلك الحال (١).

وقال ابن الجوزي ما ملخصه:-

هذه الطائفة إذا سمعت الغناء تواجدت وصفقت وصاحت ومزقت الثياب، وقد لبس عليهم إبليس في ذلك وبالغ واحتجوا بما روي عن سلمان:

لما نزلت وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر:٤٣] صاح سلمان الفارسي صيحة ووقع على رأسه ثم خرج هاربا ثلاثة أيام. والجواب أن ما ذكروه عن سلمان فمحال وكذب، ثم ليس له إسناد والآية نزلت بمكة وسلمان إنما أسلم بالمدينة، ولم ينقل عن أحد من الصحابة مثل هذا أصلا.

قال واعلم وفقك الله أن قلوب الصحابة كانت أصغى القلوب، وما كانوا يزيدون عند الوجد على البكاء والخشوع، قال: وهذا حديث العرباض بن سارية ((وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منا القلوب)) (٢) قال أبو بكر الآجرى: ولم يقل صرخنا ولا ضربنا صدورنا كما يفعل كثير من الجهال الذين يتلاعب بهم الشيطان.

قال: والتصفيق منكر يطرب ويخرج عن حد الاعتدال ويتنزه عن مثله العقلاء ويتشبه فاعله بالمشركين فيما كانوا يفعلونه عند البيت من التصدية، وهي التي ذمهم الله عز وجل بها فقال وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً [الأنفال: ٣٥] فالمكاء الصفير والتصدية التصفيق.

قال: فإذا قوى طربهم رقصوا، وقد احتج بعضهم بقوله تعالى لأيوب ارْكُضْ بِرِجْلِكَ [ص: ٤٢] قال: وهذا الاحتجاج بارد لأنه لو كان أمر بضرب الرجل فرحا كان لهم فيه شبهة، وإنما أمر بضرب الرجل لينبع الماء. فال ابن عقيل: أين الدلالة في مبتلى أمر عند كشف البلاء بأن يضرب برجله الأرض لينبع الماء إعجازا من الرقص.


(١) ((مجموع الفتاوى)) (١١/ ٥٧٣/ ٥٧٤).
(٢) رواه أبو داود (٤٦٠٧) والترمذي (٢٦٧٦) وابن ماجه (٤٣) قال الترمذي صحيح وكذلك صححه الألباني

<<  <  ج: ص:  >  >>