للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذه حوادث صحيحة وقعت للصحابة رضوان الله عليهم، وأكثر منها وقع في عصر ما بعد التابعين. فأهل السنة لا ينكرون الكرامات كما ينكرها المبتدعة، وهم يعلمون أن الله الذي وضع الأسباب ومسبباتها قادر على خرق هذه السنن لعبد من عباده، ولكن الصوفية جعلوا مجرد وقوعها دليلاً على فضل صاحبها حتى ولو وقعت من فاجر قالوا هذه كرامة لشيخ الطريقة ولذلك لا بد من ملاحظات وتحفظات حول هذا الموضوع.

أولاً: هذه الخوارق كانت تقع للصحابة دون تكلف منهم أو تطلب لها أو رياضات روحية يستجلبون بها هذه الخوارق، بل تقع إكراماً من الله لهم أو دعاء يرون فيه مصلحة دينية إما لحجة أو لحاجة للمسلمين كما كانت معجزات نبيهم صلى الله عليه وسلم، أما المتأخرون فيطلبونها ويتكلفون لها الرياضات الروحية وربما أفسد جسمه ونفسيته بسبب هذا مع أن " طلب الكرامات ليس عليه دليل، بل الدليل خلاف ذلك فإنما غيب عن الإنسان ولا هو من التكاليف لا يطالب به " (١) وهذا من التأثير بالفلاسفة حيث يقررون رياضات معينة للوصول إلى هذه الخوارق.

ثانياً: إن كرامات أولياء الله لا بد أن يكون سببها الإيمان والتقوى والولي لله هو المحافظ على الفرائض والسنن والنوافل، عالماً بأمر الله عاملاً بما يعلم فمن صفت عقيدته وصح عمله كان ولياً لله يستحق إكرام الله له إن شاء، فهذا إذا خرقت له العادة لا تضر ولا يغتر بذلك ولا تصيبه رعونه، وقد لا تحصل لمن هو أفضل منه فليست هي بحد ذاتها دليلاً على الأفضلية، فالصديق رضي الله عنه لم يحتج إليها، وحصلت لغيره من الصحابة، كما أنه ليس كل من خرقت له العادة يكون ولياً لله كما أنه ليس كل من حصل له نِعَمٌ دنيوية تعد كرامة له، بل قد تخرق العادة لمن يكون تاركاً للفرائض مباشراً للفواحش فهذه لا تعدوا أن تكون إما مساعدة من شياطين الجن ليضلوا الناس عن سبيل الله، أو استدراج من الله ومكر به أو رياضة مثل الرياضات التي يمارسها الهنود والبوذيون الكفرة ثم يضربون أنفسهم بآلات حادة ولا تؤثر فيهم أو يتركون الطعام أياماً عديدة إلى غير ذلك ويظن الفسقة أن هذه كرامة لهم.

ثالثاً: هناك سؤال مهم في هذا الصدد وهو لماذا كانت هذه الحوادث من خرق العادات قليلة في زمن الصحابة والتابعين ثم كثرت بعدئذ؟

يجيب ابن تيمية: " أنها بحسب حاجة الرجل فإذا احتاج إليها ضعيف الإيمان أو المحتاج أتاه فيها ما يقوي إيمانه ويكون من هو أكمل ولاية منه مستغنياً عن ذلك لعلو درجته (٢)، كما أن عدم وجودها لا يضر المسلم ولا ينقص ذلك في مرتبته والصحابة مع علو مرتبتهم جاءتهم هذه الخوارق إكراماً لهم أو لحاجة في الدين، وكثرتها في المتأخرين دليل على ما قاله ابن تيمية أو لتطلبهم إياها بالرياضة الروحية (٣).


(١) الشاطبي: ((الموافقات)) (٢/ ٢٨٣).
(٢) هذا فيما ثبت صحة نقله من الكرامات إلا أننا لا نغفل أنه بعد هذا العصر بدأ أهل الأهواء والبدع في نشر مذاهبهم ولا نرى مانعاً من أن يكون هؤلاء قد استظهروا على صحة مذاهبهم باختلاف كرامات لا أساس لها من الصحة تناقلتها الألسن فكثرت فيها الكرامات فيما تلى ذلك من العصور.
(٣) ((الفتاوى)): (١١/ ٣٢٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>