للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما دعوى أن الإنسان قد يحكم أو يخبر بخلاف علمه – وهي حجة الرازي التي سبقت – فإن شيخ الإسلام رد عليها من وجوه: أحدها: أن الأشاعرة أنفسهم قد أقروا بفسادها؛ وذلك "أنهم يحتجون على وجوب الصدق لله بأن الكلام النفساني يمتنع فيه الكذب لوجوب العلم لله، وامتناع الجهل، وهذا الدليل قد ذكره جميع أئمتهم حتى الرازي ذكره – لكن قال: إنما يدل على صدق الكلام النفساني لا على صدق الحروف الدالة عليه – وإذا جاز أن يتصف الحي بحكم نفساني لا يعلمه ولا يعتقده ولا يظنه، بل يعلم خلافه، امتنع حينئذ أن يقال: الحكم النفساني مستلزم للعلم، أو أنه يمتنع أن يكون بخلاف العلم فيكون كذبا. وهذا الذي قالوه تناقض في عين الشيء، ليس تناقضا من جهة اللزوم ... " (١)، ووجه التناقض واضح فإنهم لما أرادوا أن يقولوا أن الخبر قد يغاير العلم استدلوا بأن الإنسان قد يحكم ويخبر بخلاف علمه مما هو كذب، فيكون خبره مخالفا لعلمه، ثم قالوا في الاستدلال على أن الله صادق أن الكلام النفساني يمتنع فيه الكذب لوجوب العلم لله وامتناع الجهل، وعليه فيمتنع أن يكون في خبر الله ما يخالف علمه، وهذا يناقض القول السابق بأن الإنسان قد يخبر بخلاف علمه. وإذا علم أن أصل المسألة إنما يتعلق بخبر الله وعلمه لا خبر الإنسان وعلمه بأن تناقضهم، ولم يفدهم شيئا كون ذلك قد يقع للإنسان، لأنهم إنما احتجوا بذلك ليتوصلوا به إلى صحة مغايرة الخبر للعلم بالنسبة لله، وهم يقولون إن خبر الله لا يخالف علمه. الثاني- تناقضهم أيضا في مسألة الإيمان، فإنهم يقولون – كما يقول الجويني – "عن حقيقة الإيمان التصديق بالله تعالى، فالمؤمن بالله من صدقه، ثم التصديق على التحيق كلام النفس، ولا يثبت كلام النفس إلا مع العلم، فإنا أوضحنا أن كلام النفس يثبت على حسب الاعتقاد" (٢)، قال شيخ الإسلام مبينا تناقضهم: "وهذا تصريح بأنه لا يكون (أي الإيمان والتصديق) مع عدم العلم، ولا يكون على خلاف المعتقد، وهذا يناقض ما أثبتوه به كلام النفس وادعوا أنه مغاير للعلم" (٣)، ويلاحظ هنا أن الجويني صرح بأن التصديق – على التحقيق – كلام النفس، ثم صرح بأنه لا يكون كلام النفس إلا مع العلم. وهذا مناقض تماما لما ذكروه في الكلام النفسي. ولبعض الأشاعرة تناقض آخر في مسألة الإيمان، حيث صرح أبو إسحاق بأن الإيمان هو التصديق، وأن ذلك لا يتحقق إلا بالمعرفة والإقرار، وإذا كان من المعلوم أن الإقرار إنما يكون باللسان، كان هذا مناقضا لما ادعوه من أن الكلام مجرد ما يقوم بالنفس (٤).الثالث: أن دعواهم – في مغايرة الخبر للعلم – بأن الإنسان قد يخبر بخلاف علمه مما هو كذب "يهدم عليهم إثبات العلم بصدق الكلام النفساني القائم بذات الله، وإذا فسد ذلك لم ينفعهم إثبات كلام له يجوز أن يكون صدقا أو كذبا، بل لم ينفعهم إثبات كلام لم يعلموا وجوده إلا وهو كذب؛ فإنهم لم يثبتوا الخبر النفساني إلا بتقدير الخبر الكذب، فهم لم يعلموا وجود خبر نفساني إلا ما كان كذبا، فإن أثبتوا لله ذلك كان كفرا باطلا خلاف مقصودهم وخلاف إجماع الخلائق، إذ أحد لا يثبت لله كلاما لازما لذاته هو كذب، وإن لم يثبتوا ذلك لم يكن لهم طريق إلى إثبات الخبر النفساني بحال، لأنا حينئذ لم نعلم وجود معنى نفسانيا صدقا غير العلم ونحوه لا شاهدا ولا غائبا" (٥).


(١) ((التسعينية)) (ص: ١٥٥)، وانظر: ((الفرقان بين الحق والباطل – مجموع الفتاوى)) (١٣/ ١٢٩).
(٢) ((الإرشاد للجويني)) (ص: ٣٩٧)، وهو في ((التسعينية)) (ص: ١٥٧).
(٣) ((التسعينية)) (ص: ١٥٧)، وانظر بقية المناقشة إلى (ص: ١٦٢).
(٤) انظر: ((التسعينية)) (ص: ١٦٠ - ١٦١).
(٥) ((التسعينية)) (ص: ١٦٢)، وانظر ((ص: ١٦٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>