للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فهذه النقول، التي أوردناها في هذا الباب، كلها توضح أن السلف - رضي الله عنهم - كانوا لا يرون مشروعية الاجتماع للذكر بالصورة التي أحدثها الخلف. ولله در السلف! ما كان خير إلا سبقوا إليه، ولا كانت بدعة منكرة إلا كانوا أبعد الناس عنها، محذرين منها. فما من إنسان يخالف هديهم إلا كان تاركاً لسبل الخير، معرضاً عنها، مقتحماً أبواب الضلال.

فلو كان الذكر الجماعي مشروعاً أو مستحباً لفعله السلف، ولو فعلوه لنُقل عنهم، ولَوَرَدَ إلينا. فلما لم يُنقل ذلك عنهم، بل نُقل عنهم ما يخالف من الإنكار على فاعله، كما حدث من ابن عمر، وابن مسعود، وغيرهما. دل ذلك على أن هذا العمل غير مشروع أصلاً.

ثالثاً: النصوص العامة التي فيها المنع من الابتداع في الدين، كحديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) (١). ومعلوم أن الذكر الجماعي لم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم ولم يدل عليه، فلو شرعه النبي صلى الله عليه وسلم لأمر به وحث الناس عليه، ولشاع ذلك عنه صلى الله عليه وسلم بينهم مع قيام المقتضى.

رابعاً: أن في القول باستحباب الذكر الجماعي استدراكاً على شريعة النبي صلى الله عليه وسلم بحيث إن المبتدعين له شرعوا أحكاماً لم يشرعها النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ [الشورى: ٢١]. فلما لم يشرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته هذا العمل، دل ذلك على بدعيته.

خامساً: ومن أدلة المانعين من الذكر الجماعي: أن في هذا الذكر بصوت واحد تشبهاً بالنصارى الذين يجتمعون في كنائسهم لأداء التراتيل والأناشيد الدينية بصوت واحد. هذا مع كثرة النصوص الشرعية التي وردت في النهي عن التشبه بأهل الكتاب، والأمر بمخالفتهم.

سادساً: ومن أدلة المانعين من الذكر الجماعي: أن فيه مفاسد عديدة تقطع بعدم جوازه، لاسيما وأنها تربو على ما له من منافع زعمها المجيزون له، فمن هذه المفاسد:١ - التشويش على المصلين والتالين للقرآن مع ورود النهي عن هذا التشويش، ومنها على سبيل المثال قوله صلى الله عليه وسلم: ((ألا إن كلكم مناج ربه. فلا يؤذين بعضكم بعضاً، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة)) (٢).

٢ - الخروج عن السمت والوقار الذين يجب على المسلم المحافظة عليهما.

٣ - أن اعتياد الذكر الجماعي قد يدفع بعض الجهال والعامة إلى الانقطاع عن ذكر الله إذا لم يجدوا من يجتمع معهم لترديد الذكر جماعة كما اعتادوا.

٤ - أنه قد يحصل من بعض الذاكرين أحياناً تقطيع الآيات حتى يتمكن قصار النَفَس من الترديد مع طوال النَفَس. فهذه أظهر أدلة المانعين من الذكر الجماعي. وقد سقتها - على وجه التفصيل - في حدود ما وقفت عليه، مع تحري الأمانة فيما نقلت.

وأما أدلة المجيزين للذكر الجماعي فقد أجاب المانعون عنها بما يلي:

أولاً: الجواب على الدليل الأول: وهو احتجاجهم بالنصوص الواردة في مدح الذاكرين بصيغة الجمع، وادعاؤهم أن هذا يقتضي اجتماعهم على الذكر بشكل جماعي، وللجواب على هؤلاء يقال:

إن الحث على الذكر بصيغة الجمع ومدح الذاكرين بصيغة الجمع لا يقتضي الدلالة على استحباب أو جواز الذكر الجماعي ولا يلزم منه ذلك. بل غاية ما في هذه النصوص الدلالة على استحباب الذكر لجميع المسلمين، والحث عليه، وسواء كان ذلك على وجه الانفراد، أو الاجتماع، ظاهراً، أو خفياً.


(١) رواه البخاري (٢٦٩٧) ومسلم (١٧١٨) واللفظ له
(٢) رواه أبو داود (١٣٣٢) وأحمد (٣/ ٩٤) (١١٩١٥) وابن خزيمة (١١٦٢) قال النووي في ((الخلاصة)) (١/ ٣٩٣) إسناد أبي داود صحيح، وصححه الألباني

<<  <  ج: ص:  >  >>