للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الإلزام الأول: إذا كان الكلام نفسياً بلا حرف ولا صوت فما الذي سمعه موسى عليه السلام؟ أجابوا: بأن الله أزال عنه الحجاب وأسمعه الكلام القديم ثم أعاد الحجاب (١).وهذا القول صريح منهم بأن الله تعالى لا يتكلم، وإنما الذي فعله هو رفع الحجاب، ورفع الحجاب ليس تكليماً، وقد أكد الله أنه تكلم فقال: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: ١٦٤] فأكد قوله بالمصدر ليفيد الحقيقة. ثم إنه يقال لهم ما شفيتم عليلاً إذ فررتم من الحقيقة وهي هل يمكن سماع غير الأصوات؟ وهنا اضطربوا فالتزام الغزالي: أنه سمعه بلا حرف ولا صوت كما أنه يرى في الآخرة بلا كم ولا كيف (٢)، وهذه الموازنة غلط بين إذ هو قد أثبت رؤية ذاته ولم يلتزم أن تكون ذاته ذات كم وكيف فكان عليه أن يثبت صوتاً لا يشبه أصوات الخلق كما وازن، وإلا فلا فائدة في موازنته ولا مناسبة. مع أن استعماله لتلك العبارات لم يكن معروفاً عند السلف – وأيضاً فإنه لم يأت ببرهان يفيد أنه يمكن سماع غير الأصوات فلجأ إلى أن ذلك عن طريق خرق العادة – ولم يأت ببرهان على ما ادعاه – بل ناقض صريح الآية في تكليم الله تعالى لموسى عليه السلام كما تقدم قريباً. والتزم الإسفراييني أن موسى عليه السلام سمع صوتاً تولى الباري خلقه من غير كسب للعباد؟ (٣) قلت: وهذا رجوع صريح لمذهب المعتزلة. ولهم قول ثالث: وهو أنه سمعه بصوت من جميع الجهات على خلاف ما هو العادة (٤). ولم يبينوا هل الصوت الذي سمعه هو صوت الباري أو لا؟ والذي يظهر أنهم لا يثبتونه صوتاً للباري لأنهم اتفقوا على أن كلامه نفسي فقط والفرق بين هذا القول والقول الثاني: هو أن القول الثاني: خص الصوت المخلوق بجهة معينة، والقول الثالث: لم يخص الصوت المخلوق بجهة معينة، وهذا كله محض افتراء وتمويه والتزام للجهالة إذ القول الثالث مآله إلى أن الكلام لم يقم بمتكلم أصلاً، وهو مع ذلك مناقض للآية في تحديد جهة الكلام التي سمع منها موسى عليه السلام كلام الله بلا واسطة، قال تعالى: نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ [القصص: ٣٠].

الإلزام الثاني: وهو إذا كان الكلام نفسياً فقط بلا حرف ولا صوت، فما الفرق بين مراتب الوحي الثلاث؟ وبتعبير أوضح، ما مزية موسى عليه السلام الذي اصطفاه الله بكلامه على من سمع الوحي بواسطة الملك أو كان إلهاماً؟ وليس لهم جواب يشفي في هذا الموضوع – فغاية ما قالوه هو قول الباقلاني: "إن الله تعالى يسمع كلامه لخلقه على ثلاث مراتب: تارة يسمع من شاء كلامه بغير واسطة لكن من وراء حجاب – ونعني بالحجاب للخلق لا للحق – كموسى عليه السلام، أسمعه كلامه بلا واسطة لكن حجبه عن النظر إليه، وتارة يسمع كلامه من شاء بواسطة مع عدم النظر والرؤية أيضاً من ملك أو رسول أو قارئ ... وتارة يسمع كلامه من شاء من الخلق بغير واسطة ولا حجاب كتكليمه لنبينا عليه السلام ليلة المعراج ... " (٥).

وهذا كله مع التزامه بنفي الحرف والصوت، فظهر أن تقسيمه السابق لم يفد شيئاً.


(١) ((تحفة المريد)) (ص: ٧٤) وانظر ((شرح المقاصد)) (٤/ ١٥٦).
(٢) انظر ((شرح المواقف)) (٤/ ١٥٦).
(٣) انظر ((شرح المواقف للجرجاني)) (٤/ ١٥٦).
(٤) انظر ((شرح المواقف)) (٤/ ١٥٦).
(٥) ((الإنصاف)) للباقلاني (ص: ١٤٥ - ١٤٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>