للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولكن المتصوفة أخذوه بكامله عنهم، وزادوا عليهم حيث اتهموا رسول الله بتهمة برّأ الله ساحته عنها بقوله: وما هو على الغيب بضنين (١).واستندوا بحديث مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علمهم بأنه هو القائل: ((من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) (٢).

فقالوا: (أمر الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بكتم أشياء مما لا يسعه غيره للحديث المروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أوتيت ليلة أسري بي ثلاثة علوم، فعلم أخذ عليّ في كتمه، وعلم خيّرت في تبليغه، وعلم أمرت بتبليغه)) (٣) الذي أمر بتبليغه هو علم الشرائع، والعلم الذي خيّر في تبليغه هو علم الحقائق، والعلم الذي أخذ عليه في كتمه هو الأسرار الإلهية ولقد أودع الله جميع ذلك في القرآن. فالذي أمر بتبليغه ظاهر. والذي خيّر في تبليغه باطن لقوله سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت: ٥٣] وقوله وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ [الحجر: ٨٥] وقوله (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه) وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ [الجاثية: ١٣] وقوله وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي [الحجر: ٢٩] فإن جميع ذلك له وجه يدلّ على الحقائق ووجه يتعلق بالشرائع، فهو كالتخير، فمن كان فهمه إلهيا فقد بلغ ذلك، ومن لم يكن فهمه ذلك الفهم وكان مما لو فوجئ بالحقائق أنكرها، فإنه ما بلغ إليه ذلك لئلا يؤدي ذلك إلى ضلالته وشقاوته. والعلم الذي أخذ عليه في كتمه فإنه مودع في القرآن بطريق التأويل لغموض الكتم، فلا يعلم ذلك إلا من أشرف على نفس العلم أولا، وبطريق الكشف الإلهي، ثم سمع القرآن بعد ذلك، فإنه يعلم المحلّ الذي أودع الله فيه شيئا من العلم المأخوذ على النبي صلى الله عليه وسلم في كتمه وإليه الإشارة بقوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ [آل عمران: ٧] على قراءة من وقف هنا، فالذي يطلع تأويله في نفسه هو المسمى بالله فافهم (٤).

ويقول أبو نصر السراج الطوسي: (إن حقائق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وما خصّه الله تعالى به من العلم، لو وضعت على الجبال لذابت إلا أنه كان يظهرها لهم على مقاديرهم (٥).

أي لم يظهر النبي صلى الله عليه وسلم جميع العلوم التي كان قد خصه الله بها – حسب زعمهم – وذلك لأجل أن الناس لم يكونوا يقدرون على حملها ومعرفتها.

وبمثل ذلك نقل الشعراني عن سيده محمد الحنفي أنه قال: (وههنا كلام لو أبديناه لكم لخرجتم مجانين لكن نطويه عمن ليس من أهله (٦).

وهذا عين ما ذكره الشيعة عن جعفر بن الباقر أنه قال: (إن عندنا والله سرا من سرّ الله، وعلما من علم الله، أمرنا الله بتبليغه، فبلّغنا من الله عز وجل ما أمرنا بتبليغه، فلم نجد له موضعا ولا أهلا ولا حمالة يحتملونه (٧).

ونسبوا إلى علي رضي الله عنه أنه قال: (إن أمرنا صعب مستصعب لا يحمله إلا عبد امتحن الله قلبه للإيمان، ولا يعي حديثنا إلا صدور أمينة، وأحلام رزينة (٨).أيضا (لا يحتمله ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان (٩).


(١) التكوير الآية ٢٤.
(٢) رواه البخاري (١٢٩١) ومسلم (٣)
(٣) لم نجده بهذا اللفظ
(٤) ((الإنسان الكامل)) لعبد الكريم الجيلي (١/ ١١٧) الطبعة الرابعة ١٤٠٢ هـ مصر.
(٥) كتاب ((اللمع)) للطوسي (ص ١٥٩).
(٦) ((طبقات الشعراني)) (٢/ ٩٨).
(٧) ((الأصول من الكافي)) (١/ ٤٠٢)، أيضا ((بصائر الدرجات الكبرى)) للصفار (ص ٤٠).
(٨) انظر ((نهج البلاغة)).
(٩) ((الأصول من الكافي)) (١/ ٤٠٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>