للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذا وأن الصوفية اتهموا أبا هريرة رضي الله عنه أنه قال: (حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم جرابين من العلم: أما أحدهما فبثثته في الناس، وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم (١).

كما كذبوا على عليّ بن الحسين زين العابدين أنه قال:

(يا ربّ جوهر علم لو أبوح به ... لقيل لي: أنت ممن يعبد الوثنا

ولاستحل رجال مسلمون دمي ... يرون أقبح ما يأتونه حسنا

إني لأكتم من علمي جواهره ... كي لا يرى الحق ذو جهل فيفتننا)

وقال النفزي الرندي:

(في قلوب الأحرار قبور الأسرار، والسر أمانة الله تعالى عند العبد، فافشى بالتعبير عنه خيانة، والله تعالى لا يحب الخائنين، وأيضا فإن الأمور المشهودة لا يستعمل فيها إلا الإشارة والإيماء، واستعمال العبارات فيها إفصاح بها وإشهار لها، وفي ذلك ابتذالها وإذاعتها، ثم إن العبارة عنها لا تزيدها إلا غموضا وانغلاقا، لأن الأمور الذوقية يستحيل إدراك حقائقها بالعبارات النطقية، فيؤدي ذلك إلى الإنكار والقدح في علوم السادة الأخيار. قال أبو علي الروذباري رضي الله تعالى عنه: علمنا هذا إشارة، فإذا صار عبارة خفي (٢).

وأما لسان الدين بن الخطيب فقال: (حملة علم النبوة هم الذين عناهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ((علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل) (٣)، قالوا: وهذا العلم هو الذي لا يجوز كشفه، ولا إذاعته ولا ادعاؤه، ومن كشفه وأذاعه وجب قتله واستحل دمه وينسبون في ذلك إلى خواص النبوة وخلفائها كثيرا كقوله:

يا ربّ جوهر علم لو أبوح به لقيل لي: أنت ممن يعبد الوثنا ولاستحل رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا (٤)

وكان كبار المتصوفة يعملون بهذا المبدأ، ولم يكونوا يظهرون للناس علومهم وأفكارهم كما روى الكلاباذي عن الجنيد أنه قال للشبلي:

(نحن حبّرنا هذا العلم تحبيرا، ثم خبأناه في السراديب، فجئت أنت، فأظهرته على رؤوس الملأ. فقال: أنا أقول وأنا أسمع، فهل في الجارين غيري (٥).ونقل الشعراني كذلك عن الجنيد أنه (كان يستر كلام أهل الطريق عمن ليس منهم، وكان يستتر بالفقه والإفتاء على مذهب أبي ثور، وكان إذا تكلم في علوم القوم أغلق باب داره، وجعل مفتاحه تحت وركه (٦).

وأيضا روى عن الشاذلي أنه كان يقول: (امتنعت عني الرؤيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رأيته، فقلت: يا رسول الله، ماذنبي؟ فقال: إنك لست بأهل لرؤيتنا لأنك تطلع الناس على أسرارنا (٧).

والصوفية يكتمون آراءهم ومعتقداتهم عن غيرهم، ويوصون مريديهم في كتبهم ومؤلفاتهم التي كتبت للخاصة وخاصة الخاصة، فالصوفي الشهير عبد السلام الفيتوري يكتب في كتابه (الوصية الكبرى): (إخواني، وسنذكر لكم كلاما في المغيبات لكن يجب الإمساك عنها إلا لأهله الذين يكتمونه، ولا ينبغي إظهاره للسفهاء الذين يلحقون به إلى الأمراء والجبابرة وأهل الدنيا (٨).

وهناك نص مهم جدا ذكره الشعراني يقطع في هذا الموضوع فيقول:

وكان بعض العارفين يقول


(١) ((إيقاظ الهمم)) لابن عجيبة الحسني (ص ١٤٥) ط مصر.
(٢) ((غيث المواهب العلية)) للنفزي الرندي (١/ ٢١٤).
(٣) قال ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (٢/ ٣٧): لم أجد له أصلا ولا يصح. وقال الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (٤٦٦): لا أصل له.
(٤) ((روضة التعريف بالحب الشريف)) (ص ٤٣٢).
(٥) ((التعرف لمذهب أهل التصوف)) للكلاباذي (ص ١٧٢) ط القاهرة.
(٦) ((اليواقيت والجواهر٩٩ للشعراني (٢/ ٩٣) ط مصطفى البابي الحلبي مصر ١٣٧٨ هـ.
(٧) انظر ((الطبقات)) للشعراني (٢/ ٧٥).
(٨) ((الوصية الكبرى)) لعبد السلام الأسمر الفيتوري (ص ١٠٥) " مكتبة النجاح طرابلس ليبيا الطبعة الأولى.

<<  <  ج: ص:  >  >>