للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(وأجعل لي من لدنك) أي من مستبطن أمورك بلا واسطة ولا سبب (سلطانا) أي برهانا قويا، وليس ذلك إلا وارد قويّ من حضرة قهار لا يصادمه شيء ألا دمغه، فيحق الحق ويزهق الباطل، ويكون ذلك السلطان ينصرني ولا ينصر عليّ، أي ينصرني على الغيبة عن الحس وعن شهود السوى حتى نبعد عنهما برؤية مولاهما ولا ينصر على الوهم والحس وشهود الغيرية. ثم بين ذلك فقال: (ينصرني على شهود نفسي) أي يقويني على الغيبة عنها فإذا انتصرت على شهودها انهزم عني وذهب شهودها وبقي شهود ربها، فالنصرة على الشيء هو غلبته حتى يضمحل وينقطع وكأن شهود النفس عدو يحاربك ويقطعك عن شهود ربك، فإذا نصرك الله عليه ودفعته عنك، فتتصل حينئذ بشهود محبوبك، وإذا فني شهود النفس فني حينئذ وجود الحس، وهو معنى قوله (ويفنيني عن دائرة حسي) فإذا فنيت دائرة الحس بقي متسع المعاني وقضاء الشهود، وهذه هي الولادة الثانية، فإن الإنسان بعد أن خرج من بطن أمه وهي الولادة الأولى بقي مسجونا بمحيطاته، محصورا في هيكل ذاته، قد التقمه الهوى، وصار في بطن الحس والوهم. وسجن الأكوان المحيطة بجسمانيته، فإذا فنيت دائرة حسه وخرج من بطن عوائده وشهوات نفسه، نقبت روحه الكون بأسره، وخرجت إلى شهود مكونها فقد ولد مرة ثانية، وهذه الولادة لا يعقبها فناء ولا موت (١).

وقال الشعراني ناقلا عن سيده علي الخواص في تفسيره قول الله عز وجل:

إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ [فصلت:٣٠] كمّل الأنبياء ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:٣٠] محمد صلى الله عليه وسلم تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ [فصلت:٣٠] عامة النبيين أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا [فصلت:٣٠] كمّل العارفين وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:٣٠] جميع المؤمنين فقد بيّنت هذه الآية مراتب الكمّل، كما بيّنت التي تليها صفاتهم وأحوالهم. وهذه الآية من الجوامع. قال: ولولا خوف الهتك لأستار الكمّل لأظهرنا لك من هذه الآية عجبا (٢).

والتأويلات كهذه لا عدّ لها ولا حصر، والقوم أشبعوا الكلام في علم الباطن والتأويل الباطني، وملؤا كتبهم به، وهذه الفكرة لم تتدرج إليهم إلا من التشيع والشيعة، كالأفكار الأخرى.

والشيعة بدورهم أخذوها من اليهودية. وهكذا أدخل الصوفية أنفسهم في الفرق الباطنية لأن الإسماعيلية والنصيرية والدروز وغيرها من الفرق الباطنية لم يسمّوا بالباطنية إلا لقولهم: إن لكل ظاهر باطنا، حسب اعتراف الشعراني نفسه، حيث يقول: (الإسماعيلية: وهم قوم يسمون بالباطنية لكونهم يقولون: لكل ظاهر باطن (٣).وأما تسمية المتصوفة العلماء والفقهاء والمسلمين الآخرين الذين لا يؤمنون بباطنيتهم، بأهل الظاهر،، والعامة،، وأهل الرسوم، والنكير عليهم فمنتشر في كتبهم، كما يقول ابن عربي: (ما خلق الله أشق ولا أشد من علماء الرسوم على أهل الله المختصين بخدمته، العارفين به من طريق الوهب الإلهي، الذين منحهم أسراره في خلقه، وفهم معاني كتابه وإشارات خطابه، فهم لهذه الطائفة مثل الفراعنة للرسل عليهم السلام (٤).

وقال لسان الدين بن الخطيب: (إن كل الخلق قعدوا على الرسوم، وقعدت الصوفية على الحقائق (٥).

أي أن الصوفية هم أهل الحقائق، وسائر الناس أهل الرسوم. ويقول الكمشخانوي: (الذين اقتصروا على الشريعة فهم العامة (٦).

والترمذي الملقب بالحكيم يقول في كتابه (ختم الأولياء): (أكثر الشريعة جاءت على فهم العامة (٧).

المصدر:التصوف المنشأ والمصادر لإحسان إلهي ظهير


(١) ((إيقاظ الهمم)) لابن عجيبة (ص ٤٥١، ٤٥٢). ط القاهرة.
(٢) ((درر الغواص للشعراني)) (ص ٥٠) بهامش ((الإبريز)) للدباغ. ط مصر.
(٣) انظر ((اليواقيت والجواهر)) للشعراني (٢/ ١٢٨).
(٤) ((الفتوحات المكية)) لابن عربي الباب الرابع والخمسون.
(٥) ((روضة التعريف)) (ص ٣٧٠).
(٦) انظر ((جامع الأصول في الأولياء)) للكمشخانوي (ص ٨٩).
(٧) ((ختم الأولياء)) للترمذي (ص ٢٣٧). ط المطبعة الكاثوليكية. بيروت.

<<  <  ج: ص:  >  >>