للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فطائفة من هؤلاء يصلون إلى الميت، ويدعو أحدهم الميت، فيقول: اغفر لي وارحمني، ونحو ذلك، ويسجد لقبره، ومنهم من يستقبل القبر، ويصلي إليه مستدبراً الكعبة، ويقول: القبر قبلة الخاصة، والكعبة قبلة العامة، وهذا يقوله من هو أكثر الناس عبادة وزهداً ... وآخر من أعيان الشيوخ المتبوعين أصحاب الصدق والاجتهاد في العبادة والزهد، يأمر المريد أول ما يتوب أن يذهب إلى قبر الشيخ، فيعكف عليه عكوف أهل التماثيل، وجمهور هؤلاء المشركين بالقبور يجدون عند عبادة القبور من الرقة والخشوع والدعاء وحضور القلب ما لا يجد أحدهم في مساجد الله تعالى ...

حتى إن طائفة من أصحاب الكبائر الذين لا يتحاشون فيما يفعلونه من القبائح، كان إذا رأى قبة الميت أو الهلال الذي على رأس القبة، خشي من فعل الفواحش، ويقول أحدهم لصاحبه. ويحك هذا هلال القبة، فيخشون المدفون تحت الهلال، ولا يخشون الذي خلق السماوات والأرض ...

ويحلف أحدهم اليمين الغموس كاذباً، ولا يجترئ أن يحلف بشيخه اليمين الغموس كاذباً، ومنهم من يقول: كل رزق لا يرزقه إياه شيخه لا يريده ... وهؤلاء يجعلون الرسل والمشايخ يدبرون العالم بالخلق والرزق وقضاء الحاجات وكشف الكربات ... ومن هؤلاء من يظن أن القبر إذا كان في مدينة أو قرية فإنهم ببركته يرزقون وينصرون، وأنه يندفع عنهم الأعداء والبلاء بسببه (١) ...

ثم يقول أبو الحسن الندوي معلقاً ومبيناً:

وكانت النتيجة الحتمية لهذا الإجلال والتعظيم أن تتزايد أهمية المشاهد بإزاء المساجد ... فقد انتشرت هذه المشاهد والمزارات في كل ركن من أركان العالم الإسلامي، ووجدت آلاف مؤلفة من القبور المزورة، وتصدى الأمراء والسلاطين لوقف الممتلكات والأراضي الواسعة عليها، وأقيمت عمارات ضخمة وقباب فخمة في أمكنة هذه القبور ومشاهد المشايخ، كما وجدت أمة بأسرها من العاكفين والكناسين والخدم لهذه القبور، ونالت الرحلة إليها كل إعجاب، حتى بدأت تصل قوافل الحجاج إليها من مسافات بعيدة ...

إلى أن يقول: وفي القرنين السابع والثامن، دخلت هذه المشاهد والضرائح في حياة المسلمين الدينية، ونالت عندهم من القبول والمركزية ما جعلها تنافس بيت الله وتتحداه (٢) ... إلخ. وهذا تقرير آخر لابن بطوطة (الرحالة) عن تربة أبي إسحاق، إبراهيم بن شهريار الكازروني في كازرون (٣)، يقول:

... ومن عادتهم أن يطعموا الوارد كائناً من كان، من الهريسة المصنوعة من اللحم والسمن، وتؤكل بالرقاق، ولا يتركوا الوارد عليهم للسفر حتى يقيم في الضيافة ثلاثة، ويعرض على الشيخ الذي بالزاوية حوائجه، ويذكرها الشيخ للفقراء والملازمين للزاوية وهم يزيدون على مائة ...

وهذا الشيخ أبو إسحاق معظم عند أهل الهند، ومن في الصين، ومن عادة الركاب في بحر الصين أنهم إذا تغير عليهم الهواء وخافوا اللصوص نذروا لأبي إسحاق نذراً، أو كتب كل منهم على نفسه ما نذره ... وما من مركب يأتي من الصين أو الهند إلا وفيه آلاف من الدنانير، فيأتي الوكلاء من جهة خادم الزاوية فيقبضون ذلك ... اهـ.

- أقول: في هذه النصوص كفاية وفوق الكفاية بكثير، لنعرف مدى سيطرة الصوفية، ومدى تأثير المشايخ على العقول، والكتاب كله براهين من أقوالهم على عقائدهم هذه التي يؤمنون بها كلهم ويكتمها الكمل منهم، ويظهرون الشريعة.

وهذه ملحة إضافية من أناشيدهم على لسان شيوخهم:

وأنا صرخت في العرش حتى ضج

وأنا حملت على علي حتى هج


(١) ((رجال الفكر والدعوة في الإسلام)): (٢/ ١٧٢، وما بعدها).
(٢) ((رجال الفكر والدعوة في الإسلام ٩ؤ٩: (٢/ ١٧٦ - ١٨٧).
(٣) مدينة إيرانية داخلية تبعد عن أقرب مرفأ إليها على خليج البصرة حوالي مائة كم، وهو بندر ريك.

<<  <  ج: ص:  >  >>