ومن الطبيعي أن يظهر في المذهب الجديد علماء، وككل عقيدة جديدة تظهر على مسرح الوجود، يكون أتباعها متحمسين لنشرها باندفاع بالغ، كذلك كان علماء المذهب الجديد ودعاته، انتشروا للدعوة لمذهبهم الجديد، وخاصة بين الشيعة الغلاة والمعتدلة، ومع الزمن والمثابرة على الدعوة تحول القرامطة الذين كانوا يسكنون الشواطئ العربية من خليج البصرة، وكذلك شيعة بلاد الشام، وكثير من الإسماعيلية والفرق الشيعية الأخرى (باستثناء الفرق في اليمن) إلى المذهب الجديد؛ مذهب الشيعة الإمامية الإثني عشرية التي صارت من الغلاة، مع العلم أن أكثر متاولة الهند تحولوا من الهندوسية أو من السنة بعد ذلك.
وكان اسم (المتاولة)، ولم يزل يطلق على شيعة جبل عامل في جنوب لبنان، بينما غالبية الشيعة في العراق وإيران والهند لا يسمون أنفسهم هذا الاسم، وإنما شيعة إمامية إثني عشرية، علماً بأن مذهب الجميع واحد بكل أصوله وفروعه ومراجعه.
وهكذا أحدث التصوف فيما أحدثه من تدمير، أكبر شرخ في جسم الأمة الإسلامية كان من الأسباب الواضحة في ضعفها واندحارها.
وقد احتاجت عملية التحويل هذه إلى قرنين ونصف من الزمن، كانت الصوفية خلالها تعمل بدأب واستمرار، والمسلمون وفقهاؤهم في غفلة مستسلمون بحجة حب آل البيت وإحسان الظن بالمسلمين، وكأن حب آل البيت وإحسان الظن بالمسلمين يمنع من وجوب معرفة الحق والأمر به، وتمييز الباطل والنهي عنه، على أن العامل المسبب لهذه الغفلة وهذا الاستسلام هو التصوف ذاته، وما بث من عقائد وفرض من جهل طيلة قرون.
ومن آثار الفقه النصيري البارزة في المذهب الجديد، سب أبي بكر وعمر، وتكفير صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتأليه الأئمة الاثني عشر، والعصمة، والبداء، والتقية، والرجعة (أي: خرافة مهديهم محمد بن الحسن العسكري الغائب في مغارة سامراء، منذ حوالي اثني عشر قرناً، وهم ينتظرون خروجه)، وقد رأينا أسلافهم، نور بخش والمشعشع والآخرين، كيف كانوا يدعون المهدوية السنِّية؛ لأن محمد بن الحسن العسكري لم يكن معروفاً لا هو ولا رجعته إلا عند النصيرية وعند بعض من كان قد تأثر بهم قبل ذلك. وكان أول المتأثرين بالفقهاء النصيرية الوافدين هم أتباع الطريقة الصفوية المباشرون؛ لأنهم كانوا أول من يستقبل أولئك الفقهاء وأول من يأخذ عنهم، وكانوا يبقون فيهم أكثر من البقاء في غيرهم من الإيرانيين، لذلك انقلب أتباع الطريقة الصفوية إلى النصيرية بكل ما فيها من عجر وبجر.
صار أتباع الطريقة الصفوية في عهد إسماعيل بن حيدر، وبناء على أوامره أو أوامر أبيه، يلبسون طرابيش حمراً، فأطلق عليهم اسم (قزلباش)، أي: الرءوس الحمر، وبانتهاجهم منهج النصيرية، شكلوا فرقة جديدة في الأمة الإسلامية، معروفة الآن باسم (القزلباشية) التي سنراها فيما يأتي. ولعل من المفيد أن نذكر أن نادر شاه (ت: ١١٦٠هـ/ ١٧٤٧م) أراد أن يعيد الشيعة إلى التشيع المعتدل ثم إلى السنة بقوة الحكم، فأصدر مرسوماً يقول فيه من جملة ما يقول: ... فاعلموا أيها الإيرانيون أن فضلهم (أي: الخلفاء الراشدين) وخلافتهم على هذا الترتيب، فمن سبهم أو انتقصهم فماله وولده وعياله ودمه حلال للشاه، وعليه لعنة الله وملائكته والناس أجمعين، وكنت شرطت عليكم حين المبايعة في صحراء مغان عام ١١٤٨ رفع السب، فالآن رفعته، فمن سب قتلته وأسرت أولاده وعياله وأخذت أمواله ... (١). اهـ.
ولكن كما قلنا، إن العقيدة لا يمكن أن تفرض من الحاكم، ولذلك لم تُجْدِ محاولة نادر شاه شيءاً، وبالعكس، فقد اغتاله قواده بعد حوالي أربع سنوات، وبقي الغلو.
(١) مؤتمر النجف، ملحق بكتاب ((الخطوط العريضة))، (ص:٩٦).