رأينا من أقوالهم في الفصول السابقة مدى تقديسهم للشيخ، وما يعتقدونه في الشيوخ من القدرة الإلهية والتصرف في الكون، بل وكل الصفات الحسنى.
وعملياً، كان هذا التقديس وهذا الاعتقاد عندهم ركنين أساسيين من أركان الإسلام والإيمان، أو كانا الركنين اللذين يقوم عليهما ما يسمونه (الإحسان).
وبما أن الصوفية كانت مسيطرة على المجتمعات الإسلامية، ومتغلغلة في نفوس كل المسلمين، إلا من رحم الله، لذلك كانت نظرة الجميع إلى الشيخ هي هذه النظرة التقديسية.
وبطبيعة الحال، انزلق هذا التسليم للشيخ والاعتقاد بقدرته الإلهية، إلى التسليم لأي رئيس والاعتقاد بقدرته الإلهية، فصاروا ينتظرون من الأمير أن يصلح ما يفسدون وأن يقول للشيء: كن فيكون.
وهذه العقيدة بالذات هي التي أضاعت بلاد المسلمين، فلقد كان الفساد الذي رأينا صوره، مستشرياً هناك بسبب الصوفية، وكان الدعاة والوعاظ كلهم، حتى من كان على نهج الإسلام الصحيح، ينتظرون الأمير الذي يغير ذلك الحال ويصلح الأحوال، ناسين قوله سبحانه: إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:١١].
وطبعاً، لا يملك الأمير القدرة الإلهية، ولم تكن لديه تلك العصا السحرية التي يحركها فتغدو الخيانة أمانة والكذب صدقاً والقناعات الفكرية المزورة حقاً ووعياً.
وبما أن القناعات المسيطرة على الناس والمتغلغلة في أعماق نفوسهم هي قدرة الأمير، لذلك كانوا يتهمونه بالجبن أو بالخيانة أو بالظلم أو ما شابهها. فيثور عليه ثائر يزيحه ويجلس مكانه، وهو يظن أنه شجاع وأمين، لكنه لا يستطيع أن يفعل شيءاً، فيتهمه الناس بدورهم بما اتهموا سلفه، فيضطر للبطش بهذا أو ذاك دفاعاً عن نفسه، ويستشري التناحر بين أنصاره وأعدائه، حتى يثور عليه ثائر آخر، فإما أن يزيحه أو ينفصل عنه ... وهكذا.
وهكذا بقيت الأمة تعيش في فتن مستمرة، ونهاية الفتن معروفة، إنها دمار الأمة. وهكذا ذهبت بلاد المسلمين، كما أنها الآن في طريقها للضياع بلداً بعد آخر بيد الماركسية، على يد دعاة ينبثقون من روح وثنية الحاكم، مثيرين الفتن ضد أعداء الماركسية وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وهؤلاء، وإن كان بعضهم غير صوفي، لكن نظرتهم هذه انبثقت في أساسها من الصوفية التي حرثت، وجاء الخبثاء؟ فزرعوا وحصدوا.
النظرة الطفولية للأمور:-
إن تقديس الشيخ الذي انزلق إلى النظرة التأليهية للحاكم، ومرور قرون على المسلمين وهم يتحركون في هذا الإطار، جعل النظرة الطفولية للأمور من الخواص المسيطرة على التفكير والمسيرة له، إلا من رحم الله.
فالطفل في أشهره الأولى لا يرى إلا البارز من الأشياء، فعندما يحمله أبوه، يمد يده إلى أنفه، أو إلى يده إن كانت قريبة منه، ولو وضعت أمامه على الأرض أشياء مختلفة الأحجام، فإنما يمد يده إلى البارز منها سواء لكبر حجمه أو لوجوده على مكان بارز. فهكذا المسلمون الآن لا يرون في المجتمعات إلا البارز، والحاكم أبرزهم، لذلك فهو المطالَب بإقامة حكم الله، وهو المطالب بالنصر، وعليه تبعة انهيار الأخلاق وتبعة الهزائم ... إلخ. والعجب العجاب المثير للارتياب أنهم لا يلقون هذه التبعات إلا على الذين يحاربون الماركسية.
ومما نسمعه، مثلاً، من أدعية يدعو بها من يسمونهم (علماء): اللهم هيئ لهذه الأمة قائداً صالحاً يقيم فيها حكم الله ويقودها إلى النصر ... إلخ.