للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذان المثلان يكثر ورودهما في مناقشات شيخ الإسلام للأشاعرة ولغيرهم، وفي بيانه للمنهج الحق في الصفات، البعيد عن التأويل والتفويض والتمثيل والتشبيه. يقول شيخ الإسلام مستدلا لهذه المسألة: "بل أبلغ من ذلك أن الله أخبر أن في الجنة من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح ما ذكره في كتابه، كما أخبر أن فيها لبنا، وعسلا، وخمرا، ولحما، وحريرا، وذهبا، وفضة، وحورا، وقصورا، ونحو ذلك، وقد قال ابن عباس: (ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء)، فتلك الحقائق التي في الآخرة ليست مماثلة لهذه الحقائق التي في الدنيا، وإن كانت مشابهة المخلوق، فكيف يجوز أن يظن أن فيما أثبته الله تعالى من أسمائه وصفاته مماثلا لمخلوقاته وأن يقال: ليس ذلك بحقيقة، وهل يكون أحق بهذه الأسماء الحسنى والصفات العليا من رب السموات والأرض؟ مع أن مباينة المخلوقات أعظم من مباينة كل مخلوق" (١).

وفي موضع آخر شرح ذلك فقال: "إنه يعلم الإنسان أنه حي عليم قدير سميع بصير متكلم، فيتوصل بذلك إلى أن يفهم ما أخبر الله به عن نفسه من أنه حي عليم قدير سميع بصير متكلم، فإنه لو لم يتصور لهذه المعاني من نفسه ونظره إليه لم يمكن أن يفهم ما غاب عنه، كما أنه لولا تصوره لما في الدنيا من العسل واللبن والماء والخمر والحرير والذهب والفضة، لما أمكنه أن يتصور ما أخبر به من ذلك من الغيب، لكن لا يلزم أن يكون الغيب مثل الشهادة فقد قال ابن عباس ... "وذكر قوله السابق، وشرح الفرق بين نعيم الجنة والدنيا وأن نعيم الجنة لا يفسد ولا يتغير، ثم قال: "فإذا كان ذلك المخلوق يوافق ذلك المخلوق في الاسم، وبينهما قدر مشترك وتشابه، علم به معنى ما خوطبنا به، مع أن الحقيقة ليست مثل الحقيقة، فالخالق جل جلاله أبعد عن مماثلة مخلوقاته، مما في الجنة لما في الدنيا. فإذا وصف نفسه بأنه حي عليم سميع بصير قدير، لم يلزم أن يكون مماثلا لخلقه، إذ كان بعدها عن مماثلة خلقه أعظم من بعد مماثلة كل مخلوق لكل مخلوق ... " (٢).وهذا المثل واضح جدا، مبين للمسألة، وقد وفق شيخ الإسلام في عرضه وشرحه، وهو مما يسلم به مؤولة الصفات، لأنهم يثبتون البعث والجنة والنار، وقد سبق في موضوع تسلط الفلاسفة والقرامطة على المتكلمين بيان أن هؤلاء الملاحدة وصموهم بالتناقض لكونهم أولوا نصوص الصفات ولم يؤولوا نصوص المعاد والجنة والنار، ومعلوم أن الملاحدة طردوا الأمرين نفيا، وأهل السنة طردوهما إثباتا، وهؤلاء تناقضوا، وشيخ الإسلام بينما يضرب هذا المثل – مثل نعيم الجنة – كأنه يريد أن يقرن بين مسألة دلالة النصوص وأنها واحدة في الصفات والمعاد، - وقد شرحها في عرضه لتسلط الملاحدة – ومسألة ما يفهم من النصوص، وأن نصوص النعيم إذا كانت تفهم لأنها تشبه نعيم الدنيا مع ما بينهما من الاختلاف في الحقيقة والكيفية، فكذلك نصوص الصفات تفهم وتعلم ولا تقتضي موافقتها في الاسم لصفات العباد أن تكون مثلها أو مشابهة لها (٣).وكذلك مثل الروح، فإنها "إذا كانت موجودة، حية، عالمة، قادرة، سميعة بصيرة، تصعد وتنزل، وتذهب وتجيء، ونحو ذلك من الصفات، والعقول قاصرة عن تكييفها وتحديدها؛ لأنهم لم يشاهدوا لها نظيرا، والشيء إنما تدرك حقيقته: إما بمشاهدته، أو بمشاهدة نظيره، فإذا كانت الروح متصفة بهذه الصفات مع عدم ماثلتها لما يشاهد من المخلوقات، فالخالق أولى بمباينته لمخلوقاته، مع اتصافه بما يستحقه من أسمائه وصفاته، وأهل العقول أعجز عن أن يحدوه أو يكيفوه منهم عن أن يحدوا الروح أو يكيفوها ... " (٤).

المصدر:موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – ٣/ ١٠٧٠


(١) ((مجموع الفتاوى)) (٥/ ٢٠٨).
(٢) ((مجموع الفتاوى)) (٩/ ٢٩٥ - ٢٩٦).
(٣) انظر: في شرح هذا المثل – مثل نعيم الجنة – ((التدمرية)) (ص: ٤٦ - ٥٠) – المحققة، و ((الحموية – مجموع الفتاوى)) (٥/ ١١٥)، و ((منهاج السنة)) (٢/ ١٥٧ - ١٥٩) – ط جامعة الإمام -، و ((مجموع الفتاوى)) (٥/ ٢٥٧ - ٢٥٨، ٦/ ١٢٣ - ١٢٥، ١١/ ٤٨٢ - ٤٨٣)، و٠ (تفسير سورة الإخلاص – مجموع الفتاوى)) (١٧/ ٣٢٦)، و ((التسعينية)) (ص: ١٢٢)، و ((الصفدية)) (١/ ٢٨٨ - ٢٨٩)، و ((شرح حديث النزول – مجموع الفتاوى)) (٥/ ٣٤٨).
(٤) ((التدمرية)) (ص: ٥٦) – المحققة-.

<<  <  ج: ص:  >  >>