للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقولهم بنفي الجهة والمكان والحيز: هو إنكار أن يكون الله تعالى حالاً أو متحداً بشيء من خلقه، وإنكار أن يكون أسفل أو فوق المخلوقات، فنفيهم لأن يكون الحق عالياً على الخلق نفي باطل، وأما نفيهم للاتحاد، والحلول، والسفل، فنفي صحيح. وحقيقة أمرهم أنهم يريدون أن يتوصلوا بنفي ذلك عن الله علوه على خلقه واستوءه على عرشه، فيقال لهم: لفظ الجهة أصله من الوجهة (١) كما في عدة ووعدة – كما في قول الله تعالى: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: ١٤٨].والجهة قد تكون أمراً وجودياً إما جسماً أو عرضاً في جسم – وهي الأمكنة الوجودية -: مثل داخل العالم، فإن الشمس وسائر النجوم والكواكب ونحوها كلها في جهات وجودية، وهو ما فوقها وما تحتها. ومثل هذا هو الذي يطلقه الرازي ولا يقر بغيره (٢) إلا أنه يقال له: وقد تكون الجهة عدمية مثل: ما وراء العالم، فإن العالم ليس في جهة وجودية، إذ لو كانت هناك جهة وجودية لكانت من جملة العالم أيضاً، والكلام إنما هو في جهة جميع المخلوقات، فإن لم نقل بالجهة العدمية أفضى ذلك إلى التسلسل الممتنع – وعلى هذا فجهة العالم جهة عدمية. وعلى التفصيل السابق يقال لمن يقول: يلزم من القول بعلو الله تعالى واستوائه على عرشه أن يكون في جهة: إما أن تكون الجهة أمراً وجودياً أو أمراً عدمياً، فإن كانت أمراً وجودياً فإنه يقال: لا يوجد إلا الخالق والمخلوقات – وليس شيء موجود مباين للخالق إلا المخلوقات، فإن كان مبايناً لها فكيف تكون محتوية عليه؟ فإن قالوا: يلزم من هذا إثبات الحد لله تعالى، قلنا ما المانع من إثباته على هذا الوجه، كما قال الأئمة فقد "سئل عبدالله بن المبارك بم نعرف ربنا؟ قال: بأنه على العرش، بائن من خلقه. قيل: بحد؟ قال: بحد" (٣) وقال أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي: "والله تعالى له حد لا يعلمه أحد غيره، ولا يجوز لأحد أن يتوهم لحده غاية في نفسه". (٤) وهذه اللفظة وإن لم ترد في الكتاب ولا في السنة، إلا أن النافين لها أرادوا أن ينفوا علو الله على خلقه، فلم ينفها الأئمة الأعلام لهذا السبب وذكروا لها معنى صحيحاً (٥).وأما إن أريد بالجهة أمر عدمي فهو ظاهر جداً – إذ الأمر العدمي لا شيء – وما كان في جهة عدمية فليس هو في شيء، فلا فرق بين أن يقال: هذا ليس في شيء، وبين أن يقال هو في أمر عدمي – أي الجهة العدمية – فعلى هذا فالله تعالى مباين لمخلوقاته عال عليهم، وما ثم موجود في العلو إلا هو – إذ لا موجود إلا الخالق والمخلوقات – فالله في علوه وحده، فإن لم يكن معه غيره في علوه فكيف يقال: إنه يحصره أو يحيط به شيء (٦).


(١) انظر: ((القاموس المحيط)) (ص: ١٦٢٠ – مادة وجه) و ((المعجم الوسيط)) (٢/ ١٠١٦) (وجه، الوجهة).
(٢) انظر ((أساس التقديس)) (ص/ ٤٧ - ٤٨). و ((المطالب العالية)) له (٢/ ١٧).
(٣) أخرجه عنه الدارمي في ((الرد على بشر المريسي)) (ص: ٢٤).
(٤) أخرجه عنه الدارمي في ((الرد على بشر المريسي)) (ص: ٢٣). وقال القاضي عياض: "فمن قال بإثبات جهة فوق من غير تحديد ولا تكييف من المحدثين والفقهاء والمتكلمين تأول "في السماء"، ((شرح النووي على صحيح مسلم)) (٥/ ٢٤ - ٢٥).
(٥) وانظر ما نقله الذهبي عن أبي القاسم التيمي في ((سير أعلام النبلاء)) (٢٠/ ٨٥ - ٨٦).
(٦) انظر ((نقض التأسيس)) (٢/ ١١٧ - ١١٩) و ((درء تعارض العقل والنقل)) (١/ ٢٥٣ - ٢٥٥) و (٥/ ٥٨ - ٥٩) و ((تفسير سورة الإخلاص)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص: ١٤٨ - ١٥٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>