للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والجواب: إن قولهم هذا فيه محذوران:-الأول- الجمع بين نقيضين، فيستحيل أن يكون الشيء الموجود لا داخل العالم ولا خارجه، فإن قيل: إن هذا من رفع الضدين، وهو جائز، وليس من نفي النقيضين إذ شرطهما أن يكون أحدهما سلباً والآخر إيجاباً، فنقيض كلمة: "داخل": لا داخل، وليس كلمة "خارج" فجوابه: إن الاصطلاح لا يغير حقائق الأشياء فإن كلمة "لا داخل" تساوي كلمة "خارج" في المعنى ضرورة أنه ما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق، والمخلوق هو العالم، فإذا قيل ليس داخل العالم لزم أن يكون خارجه، وإذا سلم جدلاً بهذا الاصطلاح فإنه لا يسلم عندئذ بأن كل ضدين يجوز رفعهما كما في مسألتنا هذه – ويقويه: أن الموجود باتفاق إما أن يكون واجباً بنفسه أو ممكناً، ويستحيل أن يكون الشيء الواحد ممكناً واجباً من جهة واحدة، أو لا واجباً ولا ممكناً، فثبت أنهما لا يرتفعان ولا يجتمعان مع أنهما لم يتقابلا بالسلب والإيجاب (١).الثاني- يلزم من هذا القول تشبيه الله جل وعلا بالممتنعات والمعدومات، لأنها يصدق عليها: لا داخل العالم ولا خارجه، فيكونون قد فروا من شيء توهموه شراً إلى ما هو شر منه (٢).ثم إن هذا القول الذي صرح به المتأخرون من أن الله ليس في السماء كان يحاوله سلفهم ولم يصرحوا به كما قال عبدالرحمن بن مهدي عن الجهمية: "يدورون على أن يقولوا ليس في السماء شيء" (٣)، وقال حماد بن زيد: "إنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء شيء" (٤)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا الذي كانت الجهمية يحاولونه قد صرح به المتأخرون منهم، وكان ظهور السنة وكثرة الأئمة في عصر أولئك يحول بينهم وبين التصريح به، فلما بعد العهد وخفيت السنة وانقرضت الأئمة، صرح الجهمية النفاة بما كان سلفهم يحاولونه ولا يتمكنون من إظهاره" (٥).ويستطرد الأشاعرة في إيراد شبههم العقلية – التي هي في الحقيقة وساوس وشكوك ومعارضات لنصوص الكتاب والسنة، فقالوا: إثبات علو الله تعالى واستوائه على عرشه إثبات للمكان له – وكل ما كان له مكان فإما أن يكون أكبر منه أو أصغر منه أو مساوياً له فيكون جسماً – وأيضاً: فالمستوي على الشيء يكون محتاجاً إليه ... ورتبوا على هذا منع الإشارة إليه (٦).والجواب: إن الألفاظ التي أتوا بها من الجسمية والمكان ألفاظ لم ترد في الكتاب والسنة، والواجب عدم المسارعة بنفيها أو إثباتها، إذ أكثر من يقول بنفيها عن الله يريد بأنه ليس مستوياً على العرش وليس له علو ذاتي على الخلق، فعلى هذا إن أريد بالمكان: العلو واستواؤه على العرش، قلنا: إن هذا النفي باطل، ولكننا لا نسمي ذلك مكاناً، وإن أريد بالمكان غير ذلك فنبرأ إلى الله تعالى من إثباته له، وكذلك يقال في لفظ الجسم: فإن أريد به ما يصح أن يرى وأنه متصف بصفات الذات والفعل، فلا يجوز نفيه عن الله، إلا أن الواجب مراعاة الألفاظ الشرعية.


(١) انظر ((التدمرية)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص: ٦٤) و (ص: ١٥٥) وانظر ((شرح النونية للهراس)) (١/ ١٧٦ - ١٧٧).
(٢) انظر ((التدمرية)) (ص: ١٩) و (ص: ٤٢).
(٣) ((السنة)) للإمام عبدالله بن أحمد (١/ ١٥٧) (رقم / ١٤٧).
(٤) ((السنة)) لعبدالله بن أحمد (١/ ١١٨) (رقم / ٤١) ونقله الذهبي عنه كذلك وجادة بإسناد ابن أبي حاتم في ((سير أعلام النبلاء)) (٧/ ٤٦١).
(٥) ذكره عنه ابن القيم في ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) (ص: ١٣٦).
(٦) انظر هذه الشبهة في كتاب ((أساس التقديس)) للرازي (ص: ٢٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>