للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم قال الرازي مبيناً للأحوال الأربعة:"إما أن يصدق مقتضى العقل والنقل فيلزم تصديق النقيضين وهو محال، وإما أن يبطل فيلزم تكذيب النقيضين وهو محال، وإما أن يصدق الظواهر النقلية ويكذب الظواهر العقلية - وذلك باطل - لأنه لا يمكننا أن نعرف صحة الظواهر النقلية إلا إذا عرفنا بالدلائل العقلية إثبات الصانع وصفاته، وكيفية دلالة المعجزة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وظهور المعجزات على محمد صلى الله عليه وسلم، ولو جوزنا القدح في الدلائل العقلية القطعية صار العقل متهماً غير مقبول القول، ولو كان كذلك لخرج أن يكون مقبول القول في هذه الأصول، وإذا لم تثبت هذه الأصول خرجت الدلائل النقلية عن كونها مفيدة، فثبت أن القدح في العقل (١) لتصحيح النقل يفضي إلى القدح في العقل والنقل معاً وأنه باطل، ولما بطلت الأقسام الثلاثة (٢) لم يبق إلا أن يقطع بمقتضى الدلائل العقلية" (٣).

والمناقشة من وجهين:

الوجه الأول: إن المقارنة التي قام بها الرازي غير صحيحة حيث إنه قابل بين الأدلة النقلية والأدلة العقلية، والصواب أن تكون المقابلة بين الأدلة الشرعية وبين الأدلة البدعية. وبيان ذلك: أن الدليل الشرعي قسمان: قسم شرعي سمعي عقلي، بمعنى أن المستدل عليه أثبته الشرع ودل عليه بأدلة عقلية، وهذا القسم هو أكثر الأدلة النقلية، المشتملة على الأمثال المضروبة وغيرها في القرآن والسنة، الدالة على توحيد الله تعالى وصدق رسله وعلى المعاد - ويدخل فيه ما أباحه الشرع ونبه عليه (٤).وقسم شرعي سمعي، بمعنى أن الشيء المستدل عليه في هذا القسم "لا يعلم إلا بمجرد خبر الصادق، فإنه إذا أخبر بما لا يعلم إلا بخبره كان ذلك شرعياً سمعياً" (٥)

فعلى هذا التقسيم لم يبق دليل صحيح إلا ودخل في هذا التقسيم، ثم يبقى ما عداه بدعياً - وبالله التوفيق.

الوجه الثاني: بعد العلم بأقسام الأدلة الشرعية، فإنه يكون مناط الترجيح - على فرض وقوع التعارض - بين قطعية دلالة الدليل وظنيته، لا على كونه سمعياً أو عقلياً. والقسمة العقلية لوقوع التعارض تكون هكذا:

إذا تعارض دليلان شرعيان سواء كانا عقليين، أو سمعيين، أو كان أحدهما سمعياً والآخر عقلياً، فإما أن يكون قطعيين، أو ظنيين، أو أحدهما ظنياً والآخر قطعياً من حيث الدلالة.

والصورة الأولى: وهي أن يكون الدليلان قطعيين ممتنعة الوقوع.

وأما الصورة الثانية: وهي أن يكون الدليلان ظنيين، فإنه يصار إلى طلب ترجيح أحدهما على الآخر - في حالة تعذر الجمع - بأي نوع من أنواع الترجيحات الصحيحة المعتبرة، ويقطع النظر عن كون الدليل الشرعي سمعياً كان أو عقلياً. فإن لم يوجد مرجح قدم السمعي. وأما الصورة الثالثة: وهي أن يكون أحد الدليلين قطعياً والآخر ظنياً، فإنه يقدم القطعي على الظني لرجحانه - وهو واضح (٦).

فالرازي جعل مناط تقديم الدليل عند التعارض كون العقل أصلاً للنقل، ولم يجعل مناط التقديم قطعية الدليل أو رجحانه.

فعلى هذا فاته أمران:


(١) والرازي لا يريد بقوله هنا: العقل: الغريزة التي فينا لأنه شرط في كل علم عقلي وسمعي وما كان شرطاً في شيء يمتنع أن يكون منافياً له ... وإنما يريد به هنا: العلوم التي استفدناها بتلك الغريزة. وبهذا المعنى فإنه لا يريد يكون العقل أصلاً أنه أصل في ثبوت السمع في نفس الأمر، وإنما يريد به كونه أصلاً في علمنا بصحته، وهذا موضع المناقشة معه.
(٢) في الأصل: الأربعة - والصواب ما أثبته.
(٣) ((أساس التقديس)) (ص: ١٧٢ - ١٧٣).
(٤) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لشيخ الإسلام (١/ ١٩٨ - ٢٠٠).
(٥) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لشيخ الإسلام (١/ ١٩٩).
(٦) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (١/ ٧٩ - ٨٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>