للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبهذا الإيضاح يعلم أن النص واضح في المعنى المراد به، وليس مما يحتاج فيه إلى تأويل بدعوى معارضته العقول. وحكى الرازي قولاً آخر للإمام أحمد مستدلاً به على تسويغه التأويل فقال: "حكي أن المعتزلة تمسكوا في خلق القرآن بما روي عنه عليه السلام أنه يأتي سورة البقرة وآل عمران كذا وكذا يوم القيامة كأنها غمامتان، فأجاب أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: وقال: يعني ثواب قارئهما، وهذا تصريح بالتأويل" (١).

والجواب: إن الحديث لاشك في صحته ولفظه هكذا: ((يؤتى بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا، تقدمهم سورة البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما ظلتان سوداوان أو كأنهما فرقان من طير صواف، تحاجان عن صاحبهما)) (٢).وما ذكره عن الإمام أحمد بن حنبل من معنى الحديث فصحيح – (٣) إلا أن هذا الحديث واضح المعنى ولا يوهم باطلاً حتى يقال إنه يحتاج إلى تأويل!!. ويوضحه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((تحاجان عن صاحبهما)) ولا شك فصاحب القرآن هو العامل به – وهذا أمر واضح ويدل له أول الحديث ((وأهله الذين كانوا يعملون به)) ولذلك فإن الذي يأتي يوم القيامة هو عمله ثواباً له. وقال الترمذي: "ومعنى هذا الحديث عند أهل العلم أنه يجيء ثواب قراءته، كذا فسر بعض أهل العلم هذا الحديث، وما يشبه هذا من الأحاديث أنه يجيء ثواب قراءة القرآن، وفي حديث النواس (بن سمعان) عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على ما فسروا، إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وأهله الذين يعملون به في الدنيا)) ففي هذا دلالة أنه يجيء ثواب العمل" (٤) اهـ وقد يكون أحسن منه قول من قال: يجيء العمل نفسه في صورة لا ثواب العمل: قال شيخ الإسلام ابن تيمية، "فلما أمر بقراءتهما، وذكر مجيئهما يحاجان عن القارئ: علم أنه أراد بذلك قراءة القارئ لهما، وهو عمله، وأخبر بمجيء عمله الذي هو التلاوة لهما في الصورة التي ذكرها، كما أخبر بمجيء غير ذلك من الأعمال" اهـ.

ثم إن قولهم: إن طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم فقول متناقض يتضح بثلاثة أوجه من الرد:

الوجه الأول: تعليلهم لطريقة السلف في كونها أسلم بأنهم أولوا تأويلاً إجمالياً باعتقادهم أن ظاهرها غير مراد إلا أنهم أمسكوا عن تحديد المراد بالكف عن التأويل!، فكلام خطأ على السلف فهم قد اعتقدوا ظاهرها الشرعي كما تقدم النقل عنهم. وفي قولهم: إن السلف كفوا عن التأويل يفيد أن المتكلمين خرقوا هذا الإجماع، وهذا هو الذي دفع الجويني آخراً إلى الإقرار والرجوع إلى طريقة السلف وهي الكف عن التأويل كيف والسلف فيهم الصحابة الذين ورثوا العلم عن الرسول صلى الله عليه وسلم!.الوجه الثاني: قولهم: إن طريقة السلف أسلم يستلزم أن تكون أعلم وأحكم، فالسلامة لا تكون إلا بالعلم والحكمة، فلو انتفيا لم تكن سلامة. فمن أراد السلامة لزمه أن يعلم أسبابها وأن يسلك تلك الأسباب بحكمه (٥).


(١) ((أساس التقديس)) (ص: ٨١) الوجه الرابع.
(٢) رواه مسلم (٨٠٥).
(٣) انظر: ((رده على الزنادقة والجهمية)) (ص: ٤٢).
(٤) ((جامع الترمذي)) (٥/ ١٦٠ - ١٦١)، و ((تحفة الأحوذي)) (٨/ ١٥٥).
(٥) انظر: ((فتح رب البرية بتلخيص الحموية)) لابن عثيمين (ص: ٥٨) ضمن رسائل في العقيدة له.

<<  <  ج: ص:  >  >>