للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قسم يقول: ليس داخل العالم ولا خارجا عنه، ولا حالا فيه وليس في مكان من الأمكنة. فهؤلاء ينفون عنه الوصفين المتقابلين. وهذا قول طوائف من متكلميهم ونظارهم. وقسم منهم يقول: إنه في كل مكان بذاته، كما يقول ذلك طوائف من عبادهم ومتكلميهم، وصوفيتهم وعامتهم (١)."وكثير منهم يجمع بين القولين: ففي حال نظره وبحثه يقول بسلب الوصفين المتقابلين فيقول: لا هو داخل العالم ولا خارجه، وفي حال تعبده وتألهه يقول بأنه في كل مكان، ولا يخلو منه شيء حتى يصرحون بالحلول في كل موجود – من البهائم وغيرها – بل بالاتحاد بكل شيء، بل يقولون بالوحدة التي معناها أنه عين وجود الموجودات"، ثم يعلل شيخ الإسلام سبب هذا التناقض فيقول: "وسبب ذلك أن الدعاء والعبادة والقصد والإرادة والتوجه يطلب موجودا، بخلاف النظر والبحث والكلام؛ فإن العلم والكلام والبحث والقياس والنظر يتعلق بالموجود والمعدوم، فإذا لم يكن القلب في عبادة وتوجه ودعاء سهل عليه النفي والسلب، وأعراض عن الإثبات، بخلاف ما إذا كان في حال الدعاء والعبادة فإنه يطلب موجودا يقصده، ويسأله ويعبده، والسلب لا يقتضي إلا النفي والعدم، فلا ينفي في السلب ما يكون مقصودا معبودا" (٢).

وهذا تحليل دقيق جدا، غاص شيخ الإسلام من خلاله في ثنايا النفس البشرية وطبيعتها، وهو يفسر ما يلاحظه المطلع والباحث في كتب العقائد الكلامية من وجود أنواع من التناقض عند كثير من هؤلاء المتكلمين والفلاسفة، ومن أمثلة ذلك:

أ- جمعهم بين علم الكلام الفلسفي، والتصوف.

ب- تعويلهم على العقل في كثير من مباحث أصول الدين، حتى أنهم يقدمونه على النصوص، ثم في الوقت نفسه يعولون على الكشوفات والمشاهدات الصوفية عندهم أو عند أشياخهم.

ج- وفي العلو قد يقولون لا داخل العالم ولا خارجه، ثم يقولون هو في كل مكان.

د- وفي توحيد الربوبية قد يبالغ في إثباته إلى حد نفي كثير من الصفات الثابتة لله لأجل تحقيقه كما يزعم، ثم هو يناقض هذا التوحيد حين يرد في خاطره أو يعتقد أن النجوم أو القبور أو غيرها لها تأثير في الضر والنفع والرزق وغيرها.

وإنما طال القول في بيان مذهب هؤلاء لدخول كثير من متأخري الأشعرية النفاة فيهم. فهذان قولان، قد يجمع بينهم بعضهم.٢ - قول من يقول: "هو فوق العرش، وهو في كل مكان ويقول: أنا أقر بهذه النصوص وهذه، لا أصرف واحدا منها عن ظاهره وهذا قول طوائف ذكرهم الأشعري في المقالات الإسلامية (٣)، وهو موجود في كلام طائفة من السالمية والصوفية، ويشبه هذا ما في كلام أبي طالب المكي ... " (٤)، وهؤلاء غالطون وإن زعموا أنهم يجمعوا بين نصوص العلو والمعية.

٣ - قول سلف الأمة وأئمتها، أئمة أهل العلم والدين، وهؤلاء آمنوا بجميع ما جاء في الكتاب والسنة، وأثبتوا علو الله تعالى وفوقيته، وأنه تعالى فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه، وهم بائنون منه، وهو أيضا مع العباد بعلمه، ومع أوليائه وأنبيائه بالنصر والتأييد.

والخلاصة أن الأقوال في مباينة الله لخلقه أربعة:

١ - منهم من يقول بالحلول والاتحاد فقط، كقول ابن عربي وأمثاله.

٢ - ومنهم من يثبت العلو نوعا من الحلول وهو الذي يضاف إلى السالمية أو بعضهم، وفي كلام أبي طالب وغيره ما قد يقال إنه يدل على ذلك.


(١) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (٥/ ١٢٢ - ١٢٣، ٢٧٢).
(٢) ((مجموع الفتاوى)) (٥/ ٢٧٢ - ٢٧٣)، وانظر: ((درء التعارض)) (٥/ ١٦٩)، و ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (٢/ ٥ - ٦، ٥٠٥، ٥١٢).
(٣) انظر: ((مقالات الإسلاميين)) (ص: ٢١٥ - ٢٩٩) – ت ريتر
(٤) ((مجموع الفتاوى)) (٥/ ١٢٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>