للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان يحتال بكل حيلة لإِقناع الناس بقدرته وعلمه، (ومن ذلك أنه أرسل مرة وراء بعض الأشقياء، وعلمهم أن يسرقوا من مخازن مصر في أحد الليالي أشياء معلومة فأطاعوا أمره، وكان قبل ذلك قد أمر الناس بترك بيوتهم ودكاكينهم مفتوحة طوال الليل بدعوى أن السرقة لا تجوز في أيامه، وتعهد لكل من يسرق له شيء برده ومعرفة السارق. فلما دار الذين استأجرهم للسرقة، وأخذوا ما أخذوه، تقدم إليه أصحاب الحاجيات يشكون إليه الأمر فقال: اذهبوا إلى أبى الهول الذي صنعته يخبركم بما تريدون، وكان قد صنع تمثالاً من النحاس على صورة أبي الهول، ووضع من داخله رجلاً يعرف أسماء السارقين، والذين سرقت الأشياء من دكاكينهم، فإذا جاء الرجل منهم وقص حكايته، أجابه الرجل من داخل الصنم أن اذهب إلى بيت فلان تجد حاجتك، وصحت أقاويله، فهال الناس الأمر واعتقدوا في الخليفة أشكالاً وألوانًا) (١).وينقل الأستاذ محمد عبد الله عنان عن كتاب (أخبار الدول المنقطعة) عن الحاكم وعن خطته الدموية ما يأتي: (وكان مؤاخذًا بيسير الذنب، حادًا لا يملك نفسه عند الغضب، فأفنى أمما وأباد أجيالاً، وأقام هيبة عظيمة وناموسًا، وكان يفعل عند قتله الشخص أفعالاً متناقضة وأعمالاً متباينة. وكان يقتل خاصته وأقرب الناس إليه، فربما أمر بإحراق بعضهم، وربما أمر بحمل بعضهم وتكفينه ودفنه وبنى تربة عليه، وألزم كافة الخواص ملازمة قبره والمبيت عنده، وأشياء من هذا الجنس يموه بها على عقول أصحابه السخيفة، فيعتقدون أن له في ذلك أغراضًا صحيحة استأثر بعلمها وتفرد عنهم بمعرفتها) (٢).ومن حوادث القتل والسفك التي اقترفها الحاكم: (أنه في سنة ٣٩٩ هـ قبض على جماعة كبيرة من الغلمان، والكتاب، والخدم الصقالبة بالقصر، وقطعت أيديهم من وسط الذراع ثم قتلوا. وقتل الفضل بن صالح (٣) من أعظم قواد الجيش، وفي العام التالي وقعت مقتلة أخرى بين الغلمان والخدم، وقتل جماعة من العلماء السنية. وقبض على صالح بن علي الروذباري لأسابيع قليلة من عزله وقتل، وعين مكانه ابن عبدون النصراني، ثم صرف وقتل لأشهر قلائل، وخلفه أحمد بن محمد القشوري في الوساطة والسفارة، ثم صرف لأيام قلائل من تعيينه وضربت عنقه لأنه كان يميل إلى الحسين بن جوهر (٤) ويعظمه. وللحاكم قصة دموية مروعة مع خادمه (غين) وكاتبه (أبي القاسم الجرجرائي) (٥)، وكان غين من الخدم الصقالبة الذين يؤثرهم الحاكم بعطفه وثقته، فعينه في سنة ٤٠٢ هـ للشرطة والحسبة ولقبه بقائد القواد، وعهد إليه بتنفيذ المراسيم الدينية والاجتماعية، وعهد بالكتابة إلى أبي القاسم الجرجرائي، وكان الحاكم قد سخط على غين قبل ذلك ببضعة أعوام وأمر بقطع يده، فصار أقطع اليد، ثم سخط عليه كرة أخرى وأمر بقطع يده الثانية، فقطعت وحملت إلى الحاكم في طبق، فبعث إليه الأطباء للعناية به ووصله بمال وتحف كثيرة، ولكن لم تمض أيام قلائل على ذلك حتى أمر بقطع لسانه، فقطع وحمل إلى الحاكم أيضًا، ومات غين من جراحه.


(١) كريم ثابت ((الدروز والثورة السورية)) (ص ١٧).
(٢) محمد عبد الله عنان ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) (ص ٥٩).
(٣) هو الفضل بن جعفر بن الفضل بن الفرات، كان في أيام الحاكم بأمر الله، وأمره بالجلوس للوساطة، فجلس خمسة أيام وقتله سنة ٤٠٥ هـ.
(٤) قائد القواد في أيام الحاكم ولاه القيادة سنة ٣٩٠ هـ، فأقام نحو ثلاث سنوات، ثم هرب خوفا من بطش الحاكم، حتى استطاع أن يظفر به وقتله سنة ٤٠١ هـ.
(٥) علي بن أحمد الجرجرائي، وزير، وتنقل في الأعمال أيام الحاكم، حتى قطع يديه سنة ٤٠٤ هـ، ثم ولي بعد ذلك ديوان النفقات سنة ٤٠٦ هـ ولقب سنة ٤٠٧ هـ نجيب الدولة، توفي سنة ٤٣٦ هـ.

<<  <  ج: ص:  >  >>